الفروق المهارية التي لا تخطئها العين

منذ 11 أشهر 166

إن وضعت بعض المكرونة في الماء وغليتها، ثم صفيت الماء وأضفت إليه علبة صوص جاهزة فمبارك؛ لقد طبخت. وإن ذهبت مع أصدقائك إلى ملعب مستأجر، وانقسمتم فريقين متنافسين، فمبارك؛ لقد لعبت كرة قدم. لكن النشاط الأول لا يجعل منك طباخاً، والثاني لا يجعل منك لاعباً محترفاً. ثم إن الاحتراف نفسه لن يجعل منك بالضرورة فناناً في أي منهما. هناك مسافة شاسعة بين الفعل وبين فن الفعل. وفي هذه المسافة تكمن إنجازات الإنسان. تكمن قدرة عينة عشوائية من أفراده على إبداع يشبه الإعجاز.

المساحة بين الفعل وفنه ليست فراغاً. مليئة بمستويات متدرجة من المهارة. من لاعب عادي في نادٍ مغمور إلى لاعب في «البريميرليغ»، إلى ميسي ورونالدو ومارادونا وبيليه.

والفروق المهارية التي لا تخطئها عين سببها فروق بسيطة للغاية من الناحية الجينية. يشترك الإنسان مع الشمبانزي في 98.8 في المائة من الـ «دي إن إيه (DNA)». كل هذه الفروق الشكلية والحضارية والعقلية، كل الهندسة والطب والبيولوجي والجيولوجي والمعمار وعلوم الفضاء والتفاضل والتكامل، أحدثها اختلاف أكبر قليلاً من 1 في المائة من جيناتنا.

أما بين البشر، فالفروق أدق. أي شخصين يتشابهان في نحو 99.9 في المائة من «الدي إن إيه». بمعنى أن الفروق بين البشر في المواهب والقدرات والقوة العضلية والتفوق الذهني، كل هذه المعجزات في الفنون، والموسيقى والشطرنج، سببها اختلاف لن يتعدى 0.1 في المائة بيننا. لو تخيلنا أن الشخص منا مُكَوَّنٌ طبيعياً من 1000 عنصر، فأنت وأنا ونيوتن وأينشتاين متشابهون في 999 عنصراً منها، ومختلفون فقط في عنصر واحد بين الألف.

في المفارق، وفي الأزمات، وفي المهمات الجسام، وتحت الضغط، يعظم تأثير هذا العنصر البسيط، وتختلف مسارات الأمم، وتتباين إنجازات الأفراد. وبهذا الفارق البسيط بين رؤية ورؤية تتغير الحياة. فلا تستهن بالفروق الضئيلة، وبالتغيير البسيط في عاداتك، أو الاختلاف البسيط في وجهات النظر التي تستمع إليها.

من عادة المجتمعات التقليدية أن تعيد إنتاج آرائها، مرة بعد مرة. وأن يكتفي المتميزون فيها بالاحتماء بالكتلة الصلبة الموروثة من طرح العقول. في حين أنها لن تتطور إلا بفضل الرؤى التي تبحث عن مسار جديد، ولو في واحد من ألف من عناصره.

إن استمعت إلى رأي ووجدت أنك سمعته من قبل كما هو، بكل عناصره، في الموضوع نفسه. فاعلم أن عقلك لا يرى هذا الرأي، يكدسه ويملأ به الخزانة، لكن إن ارتداه فلن يميزه، كزي عمال موحد في بلد شيوعي. مصير هذا الرأي سيكون كمصير سابقه. إن خسرت بسبب المسار السابق خطوة، فستخسر بسبب تكراره خطوة أخرى على الأقل، وغالباً أكثر، لأنك تقف على الرصيف نفسه، ربما في انتظار غودو، بينما الحياة تمضي.

في كثير من جوانب الحياة في منطقتنا، في الاقتصاد وفي السياسة وفي العلاقة مع العالم، تقرأ رأياً مكتوباً منذ 50 عاماً، وتقرأ رأياً حديثاً يحظى بالتأييد، فلا تجد بينهما اختلافاً. كائن الرأي لم يتطور. يزيد الأمر سوءاً أن البيئة من حوله تطورت. ومن لا يتكيف مع تطور البيئة ينتهي. حتى صارت الثقافة الغالبة لا تكاد تحتفي بصاحب رأي على قيد الحياة، ولا ترى الفارق بين الأصالة والتقليد، بل تحتفي بآراء قديمة مُحَنَّطة، وتحتضن من يعيد إنتاجها مرة بعد مرة.

وصنعة الرأي موجودة في كل الحرف، ومُشَخَّصة في حرفة المقال أو النقاش الإعلامي، موجودة في حرفة كرة القدم، حيث خطة اللعب رأي، والتشخيص الطبي رأي، والأحمال التدريبية رأي.

من الصعب افتراض أن ما يجري على الرأي السياسي والاقتصادي من جمود لا يجري على قرارات التخطيط والتنمية، ولا يجري على قطاعات الحياة الأخرى. وأن هذا هو السبب الحقيقي في قلة المواهب البارزة بالنظر إلى حجم الإمكانات المادية والبشرية والجغرافية الموجودة في المنطقة.

يحتاج الموهوب لكي يصل إلى مستوى الفنان في حرفته إلى أن يشتغل على نفسه، وأن ينمي صنعته، ويحتاج أيضاً إلى مستويات موازية من التراكم المهاري في محيطه، تطور خططه، وتنمي أحماله التدريبية، وتشخص مشكلاته بما استحدث العالم من معرفة. هذا ما يجعل لاعباً موهوباً التحق بأكاديمية برشلونة صغيراً يصير ميسي، بينما مواهب أخرى دُفنت في تربة ريف ناءٍ، أو ضاعت في زحام حضر عشوائي منفلت كأعصاب الأحمق، تسبق أفعالُه أفكارَه.