يشكل الرقص الشعبي على اختلاف أشكاله وأنواعه جزءاً من تراث المجتمع الجزائري، وتعتبر "رقصة البارود" أو الـ "فنتازيا" أو "رقصة الفروسية" أو "العلفة" أو "التبوريدة" واحدة من أهم العادات التي تحظى بمكانة رفيعة بسبب ارتباطها بمقاومة الاستعمار الفرنسي، وقد عادت لتأخذ موقعها بعد نسيان مرتبط بأسباب عدة، أبرزها الأوضاع الأمنية والاجتماعية والاقتصادية التي مرت بها البلاد.
ميزتها مغاربية وللخيل مكانة فاخرة
ميزتها أنها مغاربية تختلف تسميتها من بلد إلى آخر، وتتنوع طريقة تأديتها بين منطقة وأخرى في الجزائر، ويبقى القاسم المشترك استعمال البنادق التقليدية والخيول.
إنها رقصة الـ "فنتازيا" التي تتمثل بفرق من الخيّالة ترتدي ألبسة تقليدية تسمى بـ "الجلباب والسلهام" وترمز إلى "المقاومة ضد الغزاة"، وتقوم بتأدية عروض عسكرية تنتهي بشبه هجمات يشنها الفرسان، وتختتم بطلقات بارود من البنادق التقليدية بصورة جماعية مرفوقة بأصوات تشجيعية وأهازيج من التراث الشعبي الذي يعبر عن أمجاد وبطولات المنطقة، وتعبر "الخيالة" عن النجاح والنصر.
واللافت في الـ "فنتازيا" أنها لا تهتم بمظهر الفرسان فقط بل تحظى الخيول بلباس فاخر، وغالباً ما تكون من الأنسجة التي كان يستخدمها النبلاء في تلك الفترة، إذ إن السروج ملونة بالجلد الأحمر مطرزاً ومزيناً ومطعماً بالذهب أو موشى بالحرير، ولجامها مزينة بنقوش ذهبية أما الحزام الذي يربط السرج إلى الفرس فيكون مطرزاً بالحرير، وتكون الركب غالباً مغطاة بالفضة وغيرها من القطع التي تأخذ حيزاً واسعاً من التزيين والاهتمام، فهي تعتبر استحضاراً للملاحم العسكرية التاريخية ورمزاً للقوة والشجاعة.
اختلاف في الأصل
وتقول كتب التاريخ إن كلمة "فانتازيا" يونانية الأصل وانتقلت إلى اللغة اللاتينية المتأخرة والإيطالية لتدل على معنيي "مشهد متخيل" و"ملكة تصميم الصور"، بينما تحكي أخرى أن المصطلح من إسبانيا يدل على الخيال وفي الوقت نفسه يعني الغرور والغطرسة، ثم دخل إلى اللهجات المغاربية ذات الروافد الأندلسية للتعبير عن الجاه والمجد.
واختفت رقصة الـ "فنتازيا" خلال الأزمة الأمنية التي عاشتها البلاد في التسعينيات بعد أن كانت حاضرة بقوة في مختلف المناسبات والمناطق، لكنها عادت مرة أخرى لتعيد الاعتبار لنفسها وتستعيد شعبيتها الواسعة، وأصبحت تشكل الفرجة الرئيسة للمهرجانات الثقافية والفنية التي تنظم في الجزائر، كما حفلات الزفاف والأعياد الدينية والمناسبات السياحية.
ولا يزال سكان بعض مناطق الجزائر الداخلية يولون أهمية خاصة للـ "فنتازيا" ولاسيما في القرى والمدن الريفية حيث يدربون أبناءهم منذ سن الـ 20 على تقنيات ركوب الخيل وإطلاق البارود إلى أن يصل درجات الاحتراف من خلال الألفة التي تتكون بينه وبين فرسه، ويتمكن بعدها من استعراض مهاراته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رقصة لديها معان عدة
وتعتبر منطقة تيارت غرب الجزائر "مهد الفروسية"، فقد جعلتها منها خصوبة أراضيها موقعاً ممتازاً لتربية الخيول مما دفع بالمستعمر الفرنسي إلى تأسيس حظيرة "شاوشاوة" عام 1877، وهي الآن ذات قيمة تاريخية كبيرة جعلت السلطات تصنفها ضمن المواقع الأثرية عام 1995، كما يقدمها المتخصصون على أنها أكبر مركز لتربية الخيول في أفريقيا وأول مختبر علمي يزاوج بين تربية الخيول البربرية الأصيلة والعربية الأصيلة.
وفي السياق يعتبر الإعلامي المتخصص في الشأن الثقافي فيصل مطاوي أن رقصة البارود تراث وفولكلور شعبي موجود في بعض مناطق الجزائر، وهي رقصة لديها معان عدة من حيث الكلمات وتكون على شكل دائرة، وتستعمل البارود للتعبير عن الرجولة والشجاعة والإقدام، مضيفاً أن "البارود يستعمل في الأفراح ولذلك فهي رقصة حفلات وأفراح ومناسبات يرحّب من خلالها بالضيوف"، مبرزاً أن الرقصة موروث ثقافي عن الأجداد كان أداة نضال وصوت مقاومة ضد المحتل قبل أكثر من قرن.
انتعاش غير متوقع
إلى ذلك يرى رئيس إحدى الجمعيات الفروسية ويدعى عبدالله تركي أن "انتعاش هذا الموروث الثقافي الجميل من جديد وبصورة غير متوقعة يرجع لاهتمام شباب الجيل الجديد الكبير بهذه التقاليد والعادات، بدليل تأسيس مئات الجمعيات الثقافية المتخصصة في هذا الميدان، وأيضاً تجاوب المسؤولين مع طموحات الشباب من خلال العمل على إنجاز مراكز للفروسية والسباقات بمواصفات عالية"، مضيفاً أن "الشباب وجدوا في هذا الفن ما يظهر رجولة الفارس الذي لا يقهر وسط هالة عنفوان قوة السلاح وجموح الفرس، وفي التفاخر والتباهي ورمزاً للانطلاق والتحرر من كل القيود لحظة الانطلاق، وهواية في تحقيق المتعة والتسلية وإشباع رغبة جامحة تسكنهم، وهم يعبرون عن فرحتهم وافتخارهم وهم يمتطون بسرعة صهوة جيادهم المزينة مجسدين بذلك أدواراً تاريخية بأسلوب مثير، كون الـ ’فانتازيا‘ تتمتع بشعبية واسعة في أوساط مختلف فئات المجتمع الجزائري".
ويتابع تركي أن الحراك في المشهد الثقافي والسياسي خلال الأعوام الأخيرة سمح هو الآخر لكثير بإيلاء الاهتمام بتربية الخيول بصورة غير منتظرة، كما كان له دور كبير في تشجيع اقتحام عالم الفروسية وتعلم الـ "فانتازيا"، مشيراً إلى بعض المشكلات التي تعترض ترقية هذا الفن، ومنها غياب الدعم المالي على اعتبار أن هذا النشاط مكلف جداً مع ما تتطلبه تربية الخيول من إمكانات لاعتناء جيد بها، إضافة إلى صعوبة وأخطار اقتناء مادة البارود من مصادر غير مرخص لها، وكذا أخطار التنقل للمشاركة في إحياء الأعراس والحفلات في كل مرة.
ويعتبر استعمال البنادق التقليدية أكبر مشكل يهدد الـ "فنتازيا" بسبب المنع وانعدام أماكن التزود أو بيع مادة البارود المستعملة.