انتظر عشرات الصحافيين والمصورين المصريين والأجانب، في صبيحة الحادي والعشرين من فبراير (شباط) الحالي، في بهو المتحف المصري الكبير لمشاهدة تعامد الشمس على تمثال الملك رمسيس الثاني، لكن الحدث المنتظر لم يأت وانقلب المشهد من الاحتفال إلى موضع للتساؤل بشأن دقة موضع التمثال الذي نُقل قبل سنوات ليحاكي ظاهرة تعامد الشمس على وجه تمثال ذات الملك في معبد أبو سمبل بمحافظة أسوان أقصى جنوب مصر، والذي يُعد أكبر معبد منحوت في العالم.
الغيوم وسوء حالة الطقس كانا السبب وراء عدم نفاذ أشعة الشمس إلى وجه تمثال رمسيس، لكن بعض التدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي سخرت مما حدث وشككت في صحة موضع التمثال، وزاد اللغط، التضارب بين المواقع الصحافية المحلية التي أكد بعضها وقوع التعامد، فيما نقل البعض الآخر ظهور الغيوم الكثيفة التي منعته.
حدث فريد
ظاهرة تعامد الشمس في موقعها الأصلي بمعبد أبو سمبل تعد حدثاً فريداً يجسد تفوق المصريين القدماء في علوم الفلك والعمارة، حيث تتكرر مرتين كل عام في 22 فبراير (شباط) و22 أكتوبر (تشرين الأول)، وتخترق أشعة الشمس الممر الأمامي لمدخل معبد رمسيس الثاني بطول 200 متر حتى تصل إلى ما يسمى بـ"قدس الأقداس"، وهي منصة تضم تمثال الملك رمسيس الثاني جالساً وبجواره تمثال الإله رع حور-أختي والإله آمون وتمثال للإله بتاح، ويتم ذلك لنحو 20 دقيقة. ويجتذب ذلك الحدث سنوياً آلاف السياح من مختلف دول العالم ليشهدوا الحدث النادر.
وعند إنشاء المتحف المصري الكبير المقام قرب أهرامات الجيزة، تم نقل تمثال الملك رمسيس الثاني، أحد أعظم ملوك العصر الفرعوني، إلى موقع المتحف واعتُبر أيقونته، حيث يقف بطول يتخطى 11 متراً في بهو المتحف الذي انتهت أعمال إنشاؤه تقريباً وينتظر تحديد موعد الافتتاح. وعملت إدارة مشروع المتحف على تنفيذ تعامد الشمس على وجه التمثال في محاكاة لما يحدث في معبد أبو سمبل، وتم تشكيل لجنة عام 2019 أعدت حسابات فلكية وهندسية دقيقة لتحديد الموضع المناسب للتمثال لإتمام التعامد، بهدف أن يكون عامل جذب سياحي للمتحف.
إشاعات
وأكد المشرف على "المتحف المصري الكبير" اللواء عاطف مفتاح أن كثافة الغيوم والسحب منعت الشمس من الدخول وكانت سبباً في الواقعة. وقال لـ"اندبندنت عربية" إن "البعض استبق تفسيرات عدم تعامد الشمس على وجه تمثال رمسيس الثاني بالمتحف ليطلق إشاعات خلقت تضارب في التصريحات والانطباعات على الحدث العالمي". وأضاف أن "تعامد الشمس على وجه التمثال داخل المتحف حدث 8 مرات على مدار السنوات الأربع الماضية بمعدل مرتين خلال العام الواحد، بنجاح باهر ولم تفشل أي منها"، مؤكداً أن "الظاهرة مدروسة بشكل دقيق للغاية وجميع القياسات تمت على أعلى مستوى".
وبحسب المشرف على المتحف المصري الكبير فإن "منع الغيوم تعامد الشمس ليس بالحدث الغريب أو نتيجة خطأ في الحسابات والقياسات"، مشيراً إلى أن "معبد أبو سمبل شهد سابقاً في عامين متتالين عدم حدوث التعامد بسبب سوء الأحوال الجوية والسحب".
وفي 21 أكتوبر (تشرين الأول) عام 2020، أعلنت إدارة المتحف المصري الكبير نجاح تجربة تعامد الشمس على وجه تمثال رمسيس الثاني، بعد عام من الحسابات الدقيقة والتعديلات الهندسية لإنجاح التجربة، كما قالت الإدارة إن التعامد سيكون ضمن سيناريو العرض المتحفي عند افتتاحه أمام الجمهور.
وعن موعد افتتاح المتحف للجمهور، أكد مفتاح أنه "لا يمكن التكهن بموعد محدد للافتتاح بسبب الأوضاع العالمية في ظل الحرب الروسية - الأوكرانية التي أثرت بشكل كبير في الأوضاع الاقتصادية عالمياً"، لافتاً إلى أن "مصر تنتظر استقرار الأوضاع عالمياً لتقدم حفل افتتاح يضم زعماء العالم ويليق بالمتحف الذي يترقبه العالم". وأشار إلى أن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي سمح بفتح المتحف جزئياً أمام بعض الفعاليات لتكون رسالة طمأنة للجمهور.
أمر طبيعي
من جانبه، قال الباحث في علم الآثار المصرية، أحمد عامر، إن "عدم تعامد الشمس على وجه تمثال رمسيس الثاني بسبب الغيوم يعد أمراً طبيعياً"، مؤكداً صحة القياسات التي أجريت للقيام بتلك الظاهرة في موعدها الأصلي وهو 21 فبراير. ولفت إلى أن "التعامد في معبد أبو سمبل كان في الموعد ذاته ولكن بعد نقل المعبد في الستينيات من القرن الماضي انتقل إلى مسافة أبعد بـ500 متر عن مكانه الأصلي الذي بُني فيه قبل نحو 3 آلاف عام، ما أدى إلى تأخير موعد تعامد الشمس لمدة يوم، حيث تحدث حالياً في الثاني والعشرين من فبراير".
وعند البدء ببناء السد العالي وتشكل بحيرة ناصر جنوب مصر في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، سرت مخاوف من تأثر منطقة معبد أبو سمبل فتحركت حملة دولية لتمويل إنقاذ آثار أبو سمبل والنوبة، جمعت 40 مليون دولار ونجحت في نقل المعبد إلى موقع آمن، في الفترة بين عامَي 1964 و1968 في عملية هندسية معقدة.
وقال عامر إن "ظاهرة تعامد الشمس اهتم بها المصري القديم حيث تظهر في 14 معبداً منها معبد الكرنك ومعبد قصر قارون، ولها دلالة على تحول الفصول"، مشيراً إلى "اهتمام المصريين القدماء بالشمس كأداة للتقويم ومعرفة مواسم الزراعة وبداية الفصول، كما اعتبروا المعابد ليست للعبادة فقط وإنما لتعريف الناس بالمواعيد الزراعية وغيرها من أمور الحياة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سبب مجهول
ولا يعرف علماء الآثار حتى الآن هدف الإنسان المصري القديم من تصميم المعابد لتتعامد الشمس على "قدس الأقداس" بها، على عكس ظواهر أخرى مثل التحنيط، التي هدف بها للخلود بعد الموت، بحسب عامر الذي يشبه الظاهرة بالأهرامات التي لا يُعرف ما إذا كانت بُنيت لتكون مقبرة أم لهدف آخر. وهناك نظريتان هما الأكثر شيوعاً حول اختيار يومي تعامد الشمس على وجه رمسيس الثاني في شهري فبراير وأكتوبر، الأولى أنها ترمز لبداية ونهاية الموسم الزراعي، والثانية أنها تصادف يومي ميلاد رمسيس الثاني وتتويجه.
وأشار الباحث في علم المصريات إلى أن ظاهرة تعامد الشمس على وجه تمثال رمسيس الثاني بمعبد أبو سمبل لوحظت للمرة الأولى من خلال الروائية وعالمة المصريات البريطانية إميليا إدواردز عام 1874، وعرّفت العالم بالظاهرة في كتابها ""ألف ميل فوق النيل". وكان المعبد اكتُشف عام 1817 بواسطة عالم المصريات الإيطالي جيوفاني بيلونزي، ويعتقد أنه بُني بين عام 1265 قبل الميلاد و1244 قبل الميلاد.
ويختلف تمثال رمسيس الثاني المتواجد في المتحف المصري الكبير عن تماثيل لذات الملك وجِدت في معبد أبو سمبل، إذ إن التمثال الذي يجاور أهرامات الجيزة حالياً عُثر عليه في عام 1820 في منطقة ميت رهينة جنوب محافظة الجيزة، غرب القاهرة، والتي كانت في العصر الفرعوني تسمى "منف" وعاصمة للدولة حينها، حيث عثر عليه المستكشف الإيطالي جيوفاني باتيستا كافيليا، وكان مقسماً إلى 6 أجزاء، بجانب تمثال ضخم آخر لرمسيس الثاني.
سيرة ملك
وللتمثال بطل واقعة التعامد في المتحف ارتباط خاص مع المصريين، حيث أمر مجلس قيادة الثورة في عام 1954 بتجميع أجزائه وعرضه في ميدان "باب الحديد"، الذي سُمي لاحقاً بـ"ميدان رمسيس"، ويعد من أشهر ميادين قلب القاهرة لمجاورته محطة القطار الرئيسة بالعاصمة، وظل في مكانه 5 عقود حتى قررت السلطات نقله إلى موقع بناء المتحف المصري الكبير قرب الأهرامات عام 2006، ليكون أيقونة المشروع وكذلك حمايةً له من التلوث الناتج من الزحام في أكثر نقاط القاهرة ازدحاماً، وتابع ملايين المصريين مشهد نقله في الشوارع وعبر شاشات التلفزيون.
التمثال المصنوع من الغرانيت الوردي وزنه نحو 83 طناً، ويظهر فيه رمسيس الثاني مرتدياً التاج المزدوج، وهو التاج الأحمر الذي يمثل الشمال أو الدلتا، والتاج الأبيض يمثل الجنوب، ويوجد خنجر في حزام النقبة. ويليق التمثال المهيب باسم أحد أعظم ملوك مصر القديمة الذي تجاوزت فترة حكمه 67 عاماً (1279 - 1213 قبل الميلاد)، كما خاض أكبر المعارك العسكرية في تاريخ العالم القديم وفق خبراء الآثار والتاريخ، وهي معركة قادش التي وقعت في شمال سوريا ضد قوات الإمبراطورية الحيثية، وانتهى النزاع إلى توقيع معاهدة سلام تعد من أوائل المعاهدات الموثقة تاريخياً، والتي أنهت نحو 50 عاماً من الصراع العسكري والسياسي.