الغجري... أيقونة السلام المتخففة من أعباء الحياة

منذ 11 أشهر 118

في البدايات، بحثت هوليوود بشراسة، عن عوامل الإثارة، في شخصية الغجري التي عدّتها شخصية معقدة نفسياً، على رغم بدائيتها وسذاجتها الظاهرة. فوجدت أولاً مادة دسمة، وهي عالم الجريمة والاحتيال التي وسمت بهما شخصية الغجري مطولاً. لكن هوليوود وغيرها من الشاشات، ومع تقدّم الزمن، سرعان ما أدركت أن هذا الإرث الذي رسخته للغجري، ليس إلا إرثاً وهمياً، نتج في كثير من الأحيان من اتهامات لهذه الشخصية الجدلية، ونتج أغلبها من إرث النازية، وما يسمى "الفيشية" الأوروبية، وهما حركتان سياسيتان عريقتان اضطهدتا الغجرية بوصفها عرقاً غير آري خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها.

موجة سينمائية مضادة

وفي عام 1983 بدأت موجة من الأفلام السينمائية المضادة لهذه الفكرة النمطية، وتميزت بأنها حدثت في مركز ذلك الاضطهاد قديماً وهي فرنسا الحديثة، وجاء ذلك من خلال أفلام مثل "أمراء الغجر" (1983) للمخرج الفرنسي من أصول جزائرية غجرية توني جاتليف، تلاه بعقد من الزمن فيلم "لاتش دروم"، وصولاً إلى فيلم "موندو" (1995) وهو عمل مشابه لفيلم الرسوم المتحركة الذي جسّدته صناعة الكرتون اليابانية عام 1977 من خلال مسلسل "ريمي". وريمي أو موندو من أطفال الغجر المشردين، الذين يتمتعون بروح مرحة وقبول من الآخرين على رغم أنهم يخفون مظلومية كبيرة، وقدراً وافراً من الهواجس والشجون.

قانون فيشي

أصدرت عام 1940 حكومة فرنسا -الموالية آنذاك للنازية- قانوناً شرّعت من خلاله اضطهاد عدد من الأعراق على أساس (الهولوكوست) الشهير، وكان من هؤلاء الغجر، الذين ضيقت السلطات الأوروبية عامة عليهم الدنيا بما رحبت.

راقصة غجرية (أ ف ب)

ولاحق القانون بعض الأعراق غير الآرية ومنع هؤلاء من العمل أو الاستقرار في أي مكان نزلوا فيه. لذلك ذهبت السينما الفرنسية تحديداً منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى مطلع الألفية الثالثة إلى شرح اضطهاد الغجر، وتحدّي مجموعات منهم مثل مجموعة فيلم "أمراء الغجر" للسلطات، ممثلة بالشرطة والبلديات التي لاحقتهم بشراسة. يذكر أن مظلومية الغجر غربياً تشكلت في الوقت المعاصر من خلال محرقة هتلر الشهيرة، إذ قُتل منهم في تلك الحادثة وفق بعض الإحصاءات الواردة في الموسوعات العلمية ما نسبته 90 في المئة من مجموع عرقهم بالكامل حينها.

نظرة تاريخية

ينظر الغجر إلى أنفسهم كونهم قومية كبيرة من دون دولة، إذ يتوزع أعضاؤها بشكل فردي في كل أنحاء العالم، وأهم ما يميزهم أنهم بشر مسالمون، والدليل على ذلك أنهم العرق الوحيد المضطهد الذي لم يشكل جيشاً ولم يستعمر أرضاً (شعب من دون جيش ووطن)، ولم يتبع له ميليشيات أو ذراعاً عسكرياً أو سياسياً منظماً، وهذا ما ميّزهم عن كثير من الأعراق التي اضطهدها الآخرون على مر التاريخ.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويشكّل المسيحيون ما نسبته 90 في المئة من هذه القومية والبقية من المسلمين وغير المتدينين. ويرجع تاريخهم المعاصر إلى الهند، إذ وصلوا اليونان، ومن ثم أوروبا ولاحقاً وصل أعداد منهم إلى الشرق الأوسط. ويصل عددهم إلى 12 مليون نسمة، وفيهم قوميات عدة أبرزها النوار والكاولية والدومر والرومن. ولهم عَلَم وضعوه عام 1933، ويوصف مجلسهم بأنه كونغرس الغجر العالمي. وتقول مصادر مختلفة إنهم "يعيشون على التسوّل والاحتيال والتكهن ومعرفة الطالع والعزف على الآلات الموسيقية وتجارة بعض الصناعات اليدوية".

يُعرف الغجر بحبهم للموسيقى (أ ف ب)

يعيش الغجر حالة الترحال الدائم، ويمكن اختصار أزيائهم بالمبهرجة أو كثيرة الألوان، ويقال إن جدّهم كين قَتل أخاً له، فعاقبته الآلهة بالترحال الدائم، وهذه الأسطورة مشتقة من حكاية الشقيقين هابيل وقابيل التاريخية، غير أنها تتجلى أيضاً في مناطق أخرى من العالم خارج أوروبا من خلال بعض الحروب التي خاضتها طائفة منهم في بلدان الشرق الأوسط وكان مركزها حكاية "الزير سالم" الشهيرة، الذي حكم على قوم ابن عمه جسّاس بأن يظلوا مشردين بالأرض بعد قتلهم الملك كليب. أما الأسطورة الكبرى الأخرى لهم فهي الإصرار على نمط الحياة البدائية، والتي ينسبون بسببها إلى زمن العصور الحجرية، أو الإنسان البدائي ما قبل ظهور الأدوات (العصور الوسطى) ومن ثم ظهور الآلة حديثاً.

رفض الحداثة

يشتهر الغجر برفضهم تفشي رموز الحداثة بينهم، ومن أهم تلك الرموز التي يرفضون دورها في حياتهم الآلة بكل تطبيقاتها، مع أنهم يأخذون منها ما يجدونه مفيداً لحياتهم الموقتة في أية أرض ينزلون بها. ويعود رفض الغجر للأدوات المتطورة والآلة إلى أسطورة شهيرة متعلقة بجد آخر لهم، يقال إنه هو من صنع المسمار الذي ضُرب به جسد النبي عيسى، مما شكّل لديهم هذا القلق الدائم من خطورة دور الأدوات والآلة على الإنسان في الحياة.

في سياق متصل، صاغت السينما العربية والعالمية كثيراً من الأعمال التي تحاكي بشكل غير مباشر أيقونة الغجر، فظهرت فئة مخصصة لحكاياتهم تحت عنوان "سينما الغجر". لكن كثيراً من تلك الأعمال تميزت بالسطحية والبحث عن الجوانب غير المتقدمة معرفياً في حياتهم أو ما يسمى البوهيمية التي تخدم الدراما كثيراً.

إذ ركّزت السينما دائماً على ما توثقه المشاهدة البصرية السريعة من مظاهر حياتهم، مثل الزي المبهرج وقراءة الكف وما سمّي في السينما المصرية "وشوشة" الودع، وغيرها من المظاهر، من دون الذهاب إلى معاينة جذورها الإنسانية. ويمكن القول إن الدراما المحلية الملامسة لبعض جوانب حياتهم ومنها البدوية التي قدّمت بعض شخصيات الغجر ضمن ثوبها التقليدي، والسينما العربية وحتى العالمية، لم تصل جميعها بعد إلى جوهر الحكاية الغجرية كما يراها أصحابها، والتي تقوم على "البصيرة" والتنوير، والاحتفاء بما يحققه العقل المجرد بعيداً من دور الوسائل الخارجية، وذلك من خلال التأثير في الإنسان والزمان وليس في المكان. فالمكان لا يتعدى لديهم كونه وطناً أو تراباً مقدّساً لا يمكن أحياناً الفكاك من سلطته وإكراهاته، بخاصة في أزمنة الجدب والحروب والكوارث الطبيعية.