العودان الخشبيان... عادة صينية قديمة تحترم "قدسية الطعام"

منذ 1 سنة 131

على غرار ما نعيشه الآن من صراع حول الذكاء الاصطناعي قد يصل إلى ذروته في أية لحظة، عاش الأوروبيون والآسيويون قديماً وأثناء فترة إرساء تعاليم التحضر ومبادئ الإتيكيت الأولى مخاضاً اجتماعياً وحضارياً شرساً، تركز حول أفضل أدوات تناول الطعام على المائدة بعد خروج الإنسان من زمن الغابة والتوحش إلى زمن التنوير. أوروبياً ظل النزاع الذي حمل صبغة روحية مقدسة ولمسة نخبوية وطبقية محتدماً بين تناول الطعام باليد، وهو ما كانت تدعمه وتؤيده الكنيسة وكثير من رجال الدين وبعض النخب والنبلاء الأوروبيين، وبين استخدام الأدوات المعدنية مثل الشوكة والسكين ليصل ذروته في إيطاليا وبريطانيا وفرنسا في الفترة بين (1000-1500م) وليحسم الصراع مع بزوغ الثورة الفرنسية في القرن الـ18 لصالح هذه الأدوات الحديثة. أما آسيوياً فساعدت تعاليم المصلح الاجتماعي الشهير كونفوشيوس، الذي أبعد عن نفسه صفة التقديس ورفض الرهبنة والكهنوت في وضع حل وسطي لهذه المعضلة، إذ نصح أتباعه باستخدام العودين الخشبيين المدببين في تناول الطعام، ونهى عن استخدام الأدوات الغربية التي وصفها بكونها حادة تثقب الطعام أثناء تناوله بما يشكل تقليلاً من احترام هذه النعمة المقدسة لدى الصينيين قديماً وحديثاً.

يين ويانغ

بعد انقضاء زمن التعاليم الاجتماعية الصارمة التي حرمت استخدام أدوات تناول الطعام الحادة على المائدة، ومنها السكين والشوكة، ما زال عدد كبير من الصينيين خصوصاً والشرق آسيويين عموماً يتناولون الطعام بالعودين، ويستهلك الشعب الصيني حديثاً مليارات منها، سواء تلك التي تستعمل لمرة واحدة أو التي يعاد استخدامها. إذ يعبر استخدام الشعوب في شرق آسيا العودين عن تمسكهم بزمن المتناقضات البسيطة الثابتة في الثقافة الصينية القديمة، التي أثرت في كل من اليابان وكوريا وتايلاند وفيتنام، ومن هذه الثنائيات الشهيرة "يين ويانغ" التي تشير إلى "المخفي والمرئي" و"الشتاء والصيف" و"الأنثى والذكر"، ويجسد كل منها حال الاتزان الجسدي والروحي التي يجب أن يصل إليها الإنسان بعد تناول الطعام.

وظلت هذه الثنائيات تتحكم بأجزاء من العقل الصيني حتى بعد دخول الماركسية واستيعاب النظام السياسي الصيني الحديث لأفكار الرأسمالية ورجال الأعمال والمثقفين الجدد، مما يفسر تداول العودين في تناول الطعام حتى في زمن الصين الحديثة اليوم على نطاق واسع. بدورها حاولت الحكومات الصينية التي جاءت عقب ما يسمى الطفرة الاقتصادية وارتفاع دخل المواطن الصيني التشدد إزاء آثار هذه العادة بيئياً ومالياً، إذ تحصد هذه العادة التي يتمسك بها الآسيويون الشرقيون أثناء ولائمهم الكبرى واحتفالاتهم ملايين الأشجار مكتملة النمو، إضافة إلى المخلفات والنفايات التي تنتج من استخدام الأدوات البلاستيكية. ويتمسك الشعبان الصيني والياباني تحديداً بهذه الأداة بوصفها ناقلاً أميناً للطعام بعد أن كان جزء منها يستخدم في عمليات الطبخ لا أكثر. وتعد هذه الأدوات التقليدية ميزة تنفرد بها شعوب شرق آسيا في حين يستعمل الغربيون الأدوات الحديثة، فيما يستخدم العرب مثلاً أيديهم لتناول الطعام في كثير من المناسبات حتى وقتنا هذا باعتبار اليد التي يستعملها صاحبها حصرياً أنظف من غيرها من الأدوات.

قصة العودين الشهيرين

خلال فترة زمنية طويلة تقدر بآلاف السنين وحتى دخول الصين زمن المجاعة عام 1828 مروراً بدخول الحزب الشيوعي 1949 ولغاية بداية الثورة الصناعية 1961، ظل الشعب الصيني وفياً لنصيحة كونفوشيوس التي تشجع على استخدام العودين في تناول الطعام بدلاً من الأدوات الحادة مثل السكين وغيرها. وتتمتع المائدة الصينية بتقاليد صارمة أثناء تناول الطعام شأنها في ذلك شأن كل الحضارات الإنسانية المعاصرة، وأهمها الحضاراتان العربية والغربية. وتقول بعض هذه التعاليم إن استخدام الأدوات الحادة لثقب الطعام ليس فيه احترام لهذه النعمة، لذلك تصمم العيدان ضمن رؤوس مدببة غير ثاقبة، وتشارك شعوب شرق آسيا ومنها الصين واليابان، بعض هذه المعتقدات التقليدية التي انقرضت لدى شعوب أوروبا وتحديداً إيطاليا وبريطانيا بفعل الحداثة، إذ ألزمت الطبقات النبيلة في المجتمعات المخملية قديماً باستخدام ثلاثة أصابع من اليد في تناول الطعام لتمييزها عن الطبقات الدنيا من المجتمع، التي كان لزاماً عليها تناول الطعام بأصابع اليد كلها. ولا تتعلق تلك التعاليم المقدسة بالعودين الشهيرين فقط إذ أضافت إليها أزمنة الحروب والكوارث الطبيعية مثل المجاعات وانتشار الجراد والأوبئة صبغة خاصة انعكست على تنوع المائدة الصينية من حيث نوع الطعام والشراب، إذ تشمل تلك المائدة في بعض مناطق الصين القطط والأفاعي والدجاج، التي يعبر عنها صينياً بالأطباق الشعبية الشهيرة، وغيرها من أطباق مثل زعانف القرش والدجاج بالبطيخ، فيما يثير مهرجان تناول لحم الكلاب السنوي في (يولين) جدلاً واسعاً حتى يومنا هذا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مخاض أوروبي قديم

بطريقة ما نأت الأمة الشرق آسيوية من خلال استعمال العودين في طبخ الطعام وتناوله بنفسها عن صراع طويل سبق اعتراف الأديان والأعراف الاجتماعية القديمة بما نسميه اليوم الأدوات التقليدية لتناول الطعام وهي الشوكة والملعقة والسكين وغيرها من أدوات. وينظر كثيرون اليوم إلى ذلك الصراع بعين السخرية والاستهزاء، إذ يظن كثير من الناس المعاصرين أن هذه الأدوات الصغيرة البسيطة وصلت إليهم ضمن تعاقب منطقي أو ضمن ثقافة التوريث، بينما تؤكد الموسوعات العلمية الغربية ومنها "ويكيبيديا" ووثائق قديمة تداولتها مواقع على الشبكة العنكبوتية، ومنها كتاب آداب كان متداولاً حتى القرن الـ16 عام 1530، أن الإنسان وحتى القرن الـ18 كان يتعرض للتوبيخ والشتم والتحقير من الحضور نتيجة استخدامه الشوكة تحديداً بدلاً من أصابع اليد. ومنذ اليونان قديماً وحتى التاريخ المذكور وحتى بعد انتهاء فترة سيطرة الأديان على المجتمعات ظلت النظرة "مخجلة" إلى استخدام الشوكة تحديداً، إذ اعتبر الرجال الذين استخدموها "مخنثين". فيما ساد معتقد أن "غضب الرب طال سيدة من الطبقة النبيلة في مدينة البندقية الإيطالية"، التي كان محتماً عليها استخدام ثلاثة أصابع بدلاً من خمسة في تناول الطعام، لأنها تباهت باستخدامها شوكة طعام من تصميمها الخاص، وصادف أن ماتت بعد أيام عدة بسبب الطاعون وسط "تحذيرات من بعض المتدينين لغيرها من ملاقاة المصير ذاته".

العودان صحياً وبيئياً

واجهت دعوة المغني الصيني الشهير الأميركي المولد وانغ ليهوم لاستخدام العيدان القابلة لإعادة الاستخدام والمصنوعة من مواد مستدامة في سبيل الحفاظ على البيئة مشكلات كثيرة، منها ظهور "سارس" 2003، إذ أعلنت وزارة الصحة الصينية نتائج دراسة أجربت في هونج كونغ عام 2006 تأكد فيها ازدياد نسبة مستخدمي العيدان أو الملاعق أو الأواني الأخرى لتقديم الطعام في طبق مشترك من 46 في المئة إلى 65 في المئة منذ اندلاع المرض. ومع تزايد الطلب حديثاً على الأعواد البلاستيكية والخشبية المستخدمة لمرة واحدة نشرت دراسات أرقاماً مفادها بأن اليابانيين يستهلكون سنوياً 24 مليون زوج من هذه العيدان، فيما وصل الرقم صينياً إلى 45 مليار عود سنوياً، وهو ما يعادل 25 مليون شجرة. ويبلغ طول العود الواحد المستخدم لتناول الطعام 26 سم فيما عود الطبخ يصل إلى 40 سم. وتتميز العيدان الصينية بأنها حادة قليلاً بينما اليابانية حادة مدببة، والكورية تتميز بكونها ذات قبضة عريضة، ويعود أصل هذه العيدان للصين فيما تستخدم أيضاً في اليابان وتايوان وكوريا وفيتنام.