داخل صندوق خشبي كبير جمع أدهم صلوحة نحو ثلاثة آلاف عملة معدنية وورقية قديمة يحتفظ بها في إحدى غرف منزله بعد أن حولها إلى متحف صغير لمقتنياته من تفاصيل التراث والتاريخ والحضارة العتيقة.
للفلسطيني أدهم حكاية طويلة في جمع المسكوكات النحاسية والفضية والذهبية بدأها قبل 25 عاماً حتى أصبح الآن يمتلك كنزاً وثروة حقيقية ينظر إليها كتاريخ يستحق أن يحفظ وتتوارثه الأجيال.
بدأ أدهم جمع القطع النقدية وعمره 13 سنة، عندما حصل على أول مسكوكة قديمة عام 1993، وكانت "الشلن" الفلسطيني الذي يعود تاريخ صكه إلى عام 1927 في زمن الانتداب البريطاني.
كهواية يحبها، بدأ أدهم جمع العملات النقدية القديمة حتى بات يملك كثيراً من العملات الفلسطينية والعربية والأجنبية ويهتم بتفاصيلها. يقول إنه يعرفها جيداً ولديه معلومات شاملة عن كل قطعة وعن زمن سكها والرموز التي تحملها.
جمع أدهم العملات القديمة من خلال عمليات بحث وتنقيب داخل المناطق الأثرية في غزة، وأيضاً عن طريق شرائها من الأشخاص الذين يملكونها، وكذلك من المسنين الذين عايشوا فترات الحكم البريطاني والمصري والإسرائيلي. يوضح أن هوايته هذه من أكثر الهوايات غرابة وكلفة وإرهاقاً، إذ يتطلب الأمر جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً لتجميع القطع والتأكد من أنها حقيقية وليست مزورة.
علم "النميات"
لهواية جمع العملات القديمة علم خاص يطلق عليه "النميات"، وهو يبحث في نوعية النقود وتاريخها والأمم التي سكتها، ويكتشف أبعادها التاريخية والجغرافية والسياسية، وأيضاً يدرس العلاقات التجارية الدولية للمجتمعات القديمة، إضافة إلى تحديد تواريخ الحكام الذين ضربت في عهدهم هذه العملة، ويتعرف إلى الرموز المنقوشة عليها، سواء أكانت شخصيات أو مباني أو حيوانات أو نباتات.
ومن بين العملات القديمة التي يحتفظ بها أدهم مسكوكة من الفضة تعود إلى عام 950 هجرية، وكانت تستخدم كمهر للزواج، إضافة إلى دينار من الذهب استخدم في العهد الأموي، وإلى جانب ذلك لديه عدد من العملات التي استخدمت في العهد العثماني.
وللعملات الفلسطينية زاوية خاصة في منزل أدهم وتضم الليرة ونصف الليرة والجنيه الفلسطيني والقروش والمليمات، وأوراق نقدية تتزين بصور قبة الصخرة وساعة يافا وملامح المدن الفلسطينية القديمة. يؤكد أنه يهتم جداً بالمسكوكات الفلسطينية ويبحث عنها بدأب لأنها نادرة جداً، لا سيما أنها صكت في حقبة زمنية ضيقة من عام 1927 إلى 1946.
يقول الباحث الأكاديمي في تاريخ المسكوكات والعملات النقدية محمد الزرد إن الأراضي الفلسطينية عرفت النقود في القرن الخامس قبل الميلاد، كوسيط للتبادل التجاري عوضاً عن المقايضة، ومنذ ذلك الحين جرى تداول نحو 28 عملة على مدار العصور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف الزرد "من بين العملات التي تعاملت بها فلسطين المسكوكات الفارسية والكنعانية واليونانية التي جرى سكها في مملكة غزة القديمة، وكانت تحظى بقبول عالمي في العالم القديم، ثم النقود الرومانية، إلى أن جاءت فترة الفتح الإسلامي وبدأت عملية الإصلاح والتعريب النقدي، ووقتها ظهرت العملات النقدية بطراز إسلامي، وحظيت النقود الأموية بمكانة عظيمة، وتلت ذلك الليرة التي سكتها الدولة العثمانية، وبعدها الجنيه المصري، وفي فترة الانتداب البريطاني كلفت وزارة المستعمرات عام 1927 بتشكيل مجلس النقد الفلسطيني ولجنة العملة التي أنشأت عملة الجنيه الفلسطيني وكان يتم سكه في لندن، وتوقف عام 1947 عند قيام دولة إسرائيل.
وبحسب الزرد، فإن الأراضي الفلسطينية تعاملت بعد عام 1967 مع العملة الإسرائيلية، وكانت الليرة ثم الشيكل وبعده الشيقل الجديد، المستمر حتى اليوم. وجميع هذه النقود يجب أن تحفظ ويكون لها تتبع زمني للتاريخ النقدي.
في أية حال، يمتلك أدهم في متحفه الذي يسميه "قبة النقد" قطعاً من جميع هذه العملات، ويؤكد أنه توجه إلى وزارة الآثار والسياحة وسجل بياناتها جميعاً في الدائرة المتخصصة.
هواة ومتاحف خاصة
ليس أدهم وحده الذي يهوى جمع العملات القديمة، بل إن هناك نحو 30 آخرين من أمثاله، لكنه يعد صاحب أكبر متحف في غزة مخصص للمسكوكات الأثرية، إذ يملك ما يقارب ثلاثة آلاف قطعة بداخله، من بينها 500 مسكوسة فلسطينية تعود إلى ما قبل عهد الانتداب البريطاني، ونحو 1000 قطعة نقدية عربية فضية، إضافة إلى نحو 30 عملة تذكارية صنعت في الوقت الحاضر، وإلى جانب ذلك يمتلك أكثر من 2000 طابع بريدي. ويؤكد أن هدفه أن يحافظ عليها من الاندثار كمورث تاريخي أثري.
تجمع هواة جمع العملات القديمة تحت سقف رابطة هواة العملات والطوابع. يقول نائب مسؤولها رفيق صلاح إنهم يعملون على جمع القطع النقدية الأصلية للحفاظ عليها من محاولات إسرائيل طمس الهوية الفلسطينية، ويعرضونها في متاحف خاصة من خلالها يسعى صغار السن إلى استكشاف تاريخهم، أما كبار السن فيجددون ذكرياتهم بهذا التاريخ.
وفي الوقت الذي يتفاخر هواة جمع العملات القديمة بإنشاء متاحف خاصة، يعتقد باحثو الآثار والتاريخ أن وجود القطع النقدية في يد سكان القطاع قد يدفعهم إلى التفكير في الاتجار بها أو تهريبها خارج غزة، لذلك على جهات الاختصاص حمايتها بشكل أفضل من تلك الإجراءات المتبعة.
حول ذلك يقول الوكيل المساعد لوزارة الآثار والسياحة محمد خلة إن الهواة حصلوا على هذه القطع بشكل تراكمي، وهذه الحال ليست جديدة بل تمتد لسنوات طويلة مضت، لكنها برزت أخيراً بسبب زيادة الاهتمام بها، ولا يمنع القانون الفلسطيني السكان المحليين من اقتناء قطع أثرية أو نقدية شرط إعلام السلطات لمتابعتها، مع التعهد بالحفاظ عليها من التغيير والإتلاف وعدم الاتجار بها.
ويضيف "قمنا في الوزارة بخطوات عدة لحماية القطع النقدية، ومنها توقيع هؤلاء الهواة على تعهدات بعدم البيع أو التصرف بها أو ترميمها، كما أننا وثقنا هذه القطع في سجلات خاصة، ونعمل على متابعتها بشكل دوري، ونقوم بعملية جرد مستمر لها".
ويبين خلة أن هناك عمليات تهريب واتجار بالعملات القديمة، لكن وزارة الآثار تلاحق هؤلاء الأشخاص بالتعاون مع جهات الاختصاص في أجهزة الأمن، وتجري محاكمة القائم بذلك وفق القانون.