يجلس أحمد جواد، وهو مواطن مغربي في الـ66 من عمره، على طاولة خشبية داخل إحدى المدارس بمدينة الداخلة في صحراء المغرب، وهو يعكف على الإجابة عن أسئلة امتحانات الباكالوريا (الثانوية العامة) التي جرت قبل أيام في مختلف أرجاء البلاد.
صورة الستيني أحمد جواد، وهو يخوض غمار الامتحانات لنيل شهادة الباكالوريا في فئة المرشحين الأحرار (غير النظاميين)، جلبت ثناء واستحسان المغاربة، باعتبار أن تقدمه في السن لم يمنعه من محاولة حيازة شهادة مدرسية.
وليس جواد وحده من تقدم في السن ويبحث على رغم ذلك على الحصول على شهادة مدرسية تشفع له إما بمواصلة مساره الدراسي أو استثمارها في مهنة أو وظيفة، بل هناك مغاربة آخرون سلكوا السبيل ذاتها سواء في امتحانات الباكالوريا أو لنيل شهادة الإجازة والماستر أو حتى شهادة الدكتوراه.
شهادة الباكالوريا
اجتاز الستيني أحمد جواد امتحانات الباكالوريا للسنة الدراسية الحالية بمدينة الداخلة، وأثار انتباه وسائل إعلام مغربية عدة سلطت الضوء عليه، واستضافته للتعليق على دوافع حرصه من أجل الحصول على شهادة الباكالوريا على رغم سنه المتقدمة نسبياً. وصرح للقناة الثانية الحكومية أن ما دفعه إلى اجتياز امتحانات الباكالوريا هو كونه يمتلك "نزعة خاصة نحو المطالعة والقراءة والدراسة، وأنه يعتزم استكمال مساره الدراسي إذا حصل على شهادة الباكالوريا، كما هو حال بقية المتبارين الذين هم في سن أولاده".
وفي امتحانات الباكالوريا لعام 2020، احتفت وسائل الإعلام المغربية أيضاً بمسن يبلغ من العمر حينها 79 سنة عندما ظهر في صور عدة، وهو جالس إلى جانب تلاميذ صغار السن، حيث كان الاحتفاء كبيراً به لأنه حرص على خوض غمار هذه الاختبارات على رغم التدابير الاحترازية الصارمة لوباء كورونا.
بدورها أفلحت السبعينية بفطوم اليوسفي في الحصول على شهادة الباكالوريا لعام 2019، وحظيت باهتمام بالغ من الصحف وشبكات التواصل الاجتماعي، بينما صرحت هذه السيدة المسنة أن هدفها هو السعي إلى طلب العلم "من المهد إلى اللحد".
وفي دورة الباكالوريا لعام 2018 حرص مسن آخر تخطى 70 سنة، على اجتياز امتحانات الباكالوريا ونجح في نيل شهادته المدرسية، مصرحاً لوسائل الإعلام حينها بأن "الباكالوريا حلم قديم منعته الظروف الاجتماعية من تحقيقه في سنوات الستينيات".
شهادات جامعية
وليست شهادة الباكالوريا وحدها التي تجذب مسنين وكباراً في السن بالمغرب، بل هناك أيضاً متقدمون في السن يجتهدون للحصول على شهادات جامعية، خصوصاً شهادة الماستر أو الدكتوراه، إذ يتقدم لها مسنون ومتقاعدون عن العمل. من بين هؤلاء أبو أمل عبداللطيف، وهو رجل في العقد السابع، وأب لثلاثة أبناء و11 حفيداً، لم يجد غضاضة في أن يتقدم قبل سنوات قليلة للحصول على الماستر، وبعدها سجل لنيل الدكتوراه في القانون بجامعة مراكش.
وحصل أبو أمل، الذي لقبه زملاؤه في الجامعة شيخ الطلبة، على شهادة الباكالوريا في سن متأخرة (36 سنة)، ولأنه لم يكمل تعلميه بسبب انشغاله في مهنته، فصمم على الحصول على شهادات جامعية عليا بعدما بلغ سن التقاعد المهني.
أما بالنسبة إلى الحاج أحمد الشناع، وهو في بداية عقده السابع، فحصل بدوره على شهادة الدكتوراه قبل سنتين في تخصص الأدب العربي، وقال إن الذي دفعه للعودة لمقاعد الدراسة والحصول على شهادات جامعية هو رغبته في إثبات ذاته أمام نفسه والآخرين.
ووفق المتحدث عينه فإنه لم يشعر يوماً أنه متقدم في السن عندما كان يجلس بجوار طلبة في سن أبنائه وأحفاده، بل كان محط ترحيب وتشجيع، لافتاً إلى أن الفرحة التي غمرته عندما حصل على شهادة الدكتوراه كانت مزدوجة، فكانت فرحة التخرج وأيضاً فرحة تحقيق الذات والحلم الذي راوده منذ سنين.
دعم المعرفة
ويعلق الأستاذ الجامعي إدريس لكريني على الموضوع بالقول إن "الجامعة تعتبر فضاء للتعلم من منطلق الحق في التحصيل، وهي مفتوحة أمام جميع المواطنين رجالاً ونساء"، مبرزاً أن "هناك عدداً من الطلبة سواء المتقاعدين أو الذين لا يزالون يمارسون مهناً معينة يختارون كليات الحقوق لاستكمال دراستهم، لاقتناعهم بأن التخصصات القانونية تدعم اطلاعهم على حقول معرفية جديدة قد تفيدهم في مساراتهم الحياتية أو العملية".
وكشف لكريني عن أنه شهد على امتداد عقدين من الزمن في الجامعة، على كثير من المتقدمين في السن الذين يصرون على استكمال دروسهم، متابعاً "ما زلت أتذكر قبل سنوات أنه كان هناك أب يدرس رفقة ابنته في الكلية، وكنت أحييه على روحه ورغبته في التحصيل المعرفي".
وأشار الأستاذ الجامعي إلى أن عدداً من الطلاب دخلوا كلية الحقوق بعد الحصول على الدكتوراه في تخصصات أخرى، واختاروا الجلوس على مقاعد الجامعة إلى جانب تلاميذ في سن صغيرة، وكانوا يتابعون دراستهم باهتمام من دون عقدة أو نقص يتعلق بالسن.
وعزا لكريني رغبة هؤلاء المتقدمين بالسن في حيازة شهادات دراسية إلى "تطوير الكفاءات وتعزيز المعرفة، إذ إن كثيرين منهم يؤكدون أن دخولهم الجامعة في هذه السن ليس رغبة في تحسين وظائفهم، بل فقط الرغبة في تطوير قدراتهم والاطلاع على الحقول المعرفية اللصيقة بقضايا المجتمع".
وزاد لكريني أن "كثيرين من كبار السن أظهروا استعداداً كبيراً وقابلية للانخراط في عملية التعلم بكل انسيابية لأنهم يعيشون أجواء تتيح لهم التغلب على مصاعب نفسية أو اجتماعية ترافق حصول مرحلة التقاعد، أو تسمح لهم بملء أوقاتهم وتعزيز قدراتهم ومعارفهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
طموح وترقي
من جانبه رأى الباحث التربوي الدكتور رشيد شاكري أن "إقدام بعض المسنين أو المتقدمين في العمر على اجتياز الامتحانات، ومنها امتحانات البكالوريا والإجازة، يعود لدوافع ذاتية سيكولوجية أو إلى محفزات مؤسساتية واجتماعية". وشرح شاكري أنه "من بين هذا الدوافع تحقيق الطموحات الشخصية، إذ يرى بعضهم أن الحصول على شهادة تعليمية هو حلم شخصي، وعندما تنعدم شروط تحقيقه وفق المسار الدراسي الطبيعي يعاود هذا الطموح الظهور بعد مرحلة الاستقرار النفسي والاجتماعي، مما يدفع ببعض المتقدمين في السن إلى معاودة الكرة، والبحث عن هذه الشهادة التعليمية ولو بعد حين".
وهناك عامل آخر، وفق شاكري، وهو "فرصة الترقي والتطوير المهني، إذ تعد الشهادات الأكاديمية إحدى شروط ترقي الموظفين أو تغيير مسارهم المهني، مما يضطر بعض هؤلاء الموظفين إلى اجتياز الامتحانات الأكاديمية للحصول على الشهادات العلمية التي تمكنهم من هذا الترقي المهني".
اعتراف وتحد
أما الدافع الثالث الذي ذكره الباحث التربوي ذاته فهو "الحاجة إلى التقدير والاعتراف، إذ إنه في المجتمعات التي تعاني الأمية تتعزز قيمة الفرد فيها كلما تسلق مراتب العلم، وبالتالي فإن أصحاب الشهادات الأكاديمية لهم تقدير خاص، لذلك يسعى بعض المتقدمين في العمر إلى الحصول عليها لتحقيق هذا الاعتراف المجتمعي".
وبالنسبة إلى العامل الرابع قال المتحدث إنه "يتمثل في فرصة التحدي، إذ قد يلجأ بعض المسنين إلى اجتياز امتحانات البكالوريا لربح رهان ذاتي، فيه نوع من التحدي الشخصي للمكتسبات المعرفية التي يمتلكها، وفي حال تحقيقه يدفع ذلك الإنجاز بالناجحين إلى الاعتزاز بالذات والفخر الشخصي".
دافع خامس، تبعاً للباحث عينه، يتجسد في "اغتنام فرصة التعلم، باعتبار أن بعضاً منهم يرى أن التعلم عملية إنسانية مستمرة طوال الحياة ولا يمكن حصرها في فترة عمرية معينة، وهكذا يغتنم بعض كبار السن امتحانات الباكالوريا والإجازة الجامعية للتعلم وتجديد المعارف الأكاديمية ومسايرة المستجدات العلمية". وأضاف شاكري عاملاً سادساً هو "تحفيز التلاميذ الصغار، إذ قد يروم بعض الكبار الذين يجتازون الامتحانات الرسمية توجيه رسائل إيجابية لجيل الشباب المقبلين على الحياة وتحفيزهم على الجد والعمل، وهم بذلك يعدون قدوة ومصدر إلهام للتلاميذ".