العلم ليس ترفاً!

منذ 1 سنة 204

نعرف أن إغلاق المدارس ينشر الجهل والأمية، لكن اليونيسيف، تقول إنه يرفع معدلات العنف والاستغلال الجنسي، وعمالة الأطفال، أيضاً، وزواج القصّر ويؤثر على الصحة، والبيئة وحماية الكوكب. هذا عدا تفاقم الفقر والبؤس وتدني المساواة.

كان يفترض، والحالة هذه، حين نشر «مركز الدراسات اللبنانية» الشهر الماضي، وناقش دراسته المعتمة والسوداوية، عن التدهور الصاروخي الذي شهده الوضع التعليمي في لبنان في السنوات الأربع الأخيرة، أن تنبري هيئات الأهل، والجمعيات المعنية بالطفل والأم والشجر، لتناقش وتنبه وتدق ناقوس الخطر.

الأرقام المنشورة حول التعليم لها دلالاتها الكبيرة، وانعكاساتها الخطرة على المستقبل، والميزانيات حين تهدر بدلاً من أن تذهب لتعليم أطفالنا لها مخاطرها وتبعاتها. يتبين أن مبلغاً فاض على 16 مليار دولار أُنفق على التعليم الرسمي اللبناني منذ عام 2011. لو أضفنا إلى هذا المبلغ المليارات التي تدفعها العائلات في مختلف مراحل التعليم للمدارس والجامعات الخاصة، لأمكننا تصور ميزانية خيالية لبلد صغير مثل لبنان، لم تصمد غالبية مدارسه عند أول اختبار. وهذا بسبب غياب الرؤية العامة، والاستراتيجية الوطنية التي تنظّم التعليم، بدلاً من أن تتركه لمصالح الجهات المنتفعة. فأين ذهبت الميزانيات والمنح والمساعدات الدولية السخية؟ ومن حرم أطفال لبنان من نور المستقبل، بحيث أصبحت المدرسة حكراً على الميسورين؟ علماً بأن الغالبية لم يعد بإمكانها الالتحاق بالتعليم المدفوع.

فالجامعة اللبنانية تضم 53 في المئة من طلاب لبنان في التعليم العالي، ومع ذلك تجدها متروكة، وكأنما ثمة نقمة سياسية عليها، ورغبة دفينة في التخلص منها. الجامعات الخاصة، عانت هي الأخرى، والكلام عن مغادرة ما يقارب نصف الهيئات التعليمية البلاد، بعد أن انخفضت الرواتب مع انهيار الليرة، إلى مستويات لم تعد تسمح بالصمود. وكما عُيّن أطباء خريجون صغار في المستشفيات، استبدل بعض كبار الأساتذة المغادرين بخريجين جدد.

وبالعودة إلى المدارس، يقدّر الخبير التربوي نعمة نعمة في مقابلة له، الأموال المنهوبة من وزارة التربية بنحو مليارين ونصف المليار دولار. وبالتالي «ما يقال عن غياب الموارد المالية بسبب الأزمة الاقتصادية غير صحيح، والوزارة ذاع صيتها أصلاً لدى البنك الدولي، الذي عدّ أن وزارة التربية تعاني قلة التنظيم وغياب النظرة التجديدية وغياب إدارة الموارد المالية».

وهذا كان له تبعاته المدمرة، فبعد الانهيار الاقتصادي، جاء الوباء، وعاد أطفال العالم إلى مدارسهم، لكن أطفال لبنان، بدأ يتناقص عدد الملتحقين منهم بالمدارس بشكل كبير من سنة إلى أخرى. فمن 60 في المائة عام 2020 إلى 43 في المائة العام الذي تلاه، وبين العوز، وصعوبة التنقل بسبب غلاء الوقود، والحاجة إلى العمل، واليأس من المستوى التعليمي، هجر آلاف الطلاب المدارس، ومنهم من تسجل ولم يأتِ. أما الأطفال السوريون الذين دار خلاف كبير حول استقبالهم في المدارس أو رفضهم، فثلثهم، لم يذهبوا أصلاً، إلى المدرسة. وتنبّه الهيئات الأممية إلى تراجع في عدد مرتادي المدارس ليس في لبنان وسوريا فقط، بل في كل منطقة شرق آسيا وشمال أفريقيا؛ مما سينعكس بشكل مأساوي على شعوب بأكملها.

وفي ظل تردي الرواتب، وظروف العمل، انخفض عدد المعلمين في المدارس الخاصة بين 2018 و2021 بأكثر من سبعة آلاف أستاذ، أي ما نسبته 13 في المائة، هذا عدا شيخوخة الجهاز التعليمي المتبقي، وصعوبة تجديده مع كبح التوظيف.

الأزمات المتلاحقة في لبنان انعكست بشكل كارثي على البناء التعليمي برمّته، وأجهضت الحركات النقابية، وتمت السيطرة عليها لخدمة زعامات سياسية، وهذا جزء مهم من حماية الفساد.

لا غرابة بعد ذلك أن نجد لبنان في الاختبارات الدولية، قد أصبح طلابه في مراحل متدنية. إذ إن نحو ثلاثة أرباع الممتحنين أظهروا ضعفاً في القراءة، واستقر «فقر التعليم» على 80 في المائة في المدارس الرسمية. ويقصد بفقر التعليم هو عجز التلميذ عن قـراءة نـص بسـيط وفهمـه والتعبيـر عنـه بحلـول ســنّ العاشــرة.

تحاول وزارة التربية تطبيق خطة خمسية لتحسين جودة التعليم، والخروج من هذا الوضع الأليم. لكن يبدو أن الخطة ناقصة لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار إصلاح رواتب المدرسين، والنظر في حال الجامعة اللبنانية، وإعطاء التعليم المهني الأهمية التي يستحق.

مفيدة جداً دراسة «مركز الدراسات اللبنانية»؛ فهي على الأقل، تضع يدها على الجرح، وتسأل بصراحة «الـوزارة والجهـات المانحـة إظهـار الأرقام الفعليــة بشــفافية للــرأي العــام منعــاً لأي التبــاس مــن خــلال نشــر بيانــات واضحــة بســبب عــدم انتظــام الآليات الرقابيـة والحوكمـة الرشـيدة والشـفافية ممـا قـد يـؤدي إلـى تداعيـات خطيـرة، لا سـيما إنفاقاً متضخماً في التعليـم وفاعليـة متدنية». وهنا لبّ المعضلة التي يدفع ثمنها الجيل الجديد.

هذا الجيل الذي يضطر اليوم، إلى إيقاف الدرس، أو الانصراف إلى العمل، أو التوفيق بين الاثنين إن كان هذا ممكناً، بعد أن أصبحت رواتب المواطنين بالليرة اللبنانية التي تتبخر كل يوم أكثر، وأقساط المدارس والجامعات بالدولار الأميركي الذي يعزّ وجوده في جيب الموظف العادي، وإن وجد فللأكل والشرب والاستشفاء الذي أصبح بحد ذاته ترفاً لمن يستطع إليه سبيلاً.