بالنسبة للكثيرين، تُعدّ المرايا ضرورة في الحياة اليومية، حيث يمكن استخدامها لوضع المكياج أو ربطة العنق، أو لضبط تصفيف الشعر أو للتأكد من جاذبية مظهر الوجه، أو للحلاقة بشكل صحيح، وغيرها. وضمن الديكورات في المنزل، تصنع المرآة وهم الفضاء ورحابة المساحة، إذ تساعد المرايا في أن تبدو مساحة الغرفة الصغيرة أكبر. وانعكاس المرآة يجذب الانتباه إلى قطع الأثاث ويُسهم في زيادة سطوع الإضاءة.
مرآة «علاجية»
ولكن لدى الأطباء، اليوم، يختلف الأمر تماماً، حيث تزداد وتيرة صدور الدراسات الطبية للتعرف على جوانب أوسع في استخدام المرآة لغايات علاجية، أو ما يُعرف بـ«العلاج بالمرآةMirror Therapy»، ومنها تخفيف الآلام ما بعد بتر الأطراف، أو خلال مراحل التأهيل بعد الإصابة بالسكتة الدماغية، أو في تخفيف حِدة عدد من الأمراض العصبية، وكذلك في معالجة إلحاح الحكّ Itching في الاضطرابات الجلدية، وأيضاً في أنواع شتى من الاضطرابات النفسية، وغيرها.
وعند استخدام المرآة في حالات الآلام ما بعد بتر الأطراف، يضع المريض الطرف السليم أمامها، وبقية الطرف المبتور (والمؤلم) في الجانب الآخر، ثم ينظر في المرآة التي تعكس الطرف السليم الكامل. ومن خلال استخدام ردود الفعل البصرية الجديدة (التي صنعتها المرآة)، يرى المريض الصورة المنعكسة لليد السليمة مثلاً وهي تتحرك دون ألم، ويتشكل في دماغه حينها كما لو كان الطرف الوهمي (غير الموجود) هو الذي يتحرك، ودون أي ألم.
وضمن هذه المحاولات العلمية المتواصلة، عرض باحثون فرنسيون نتائج دراستهم الطبية الحديثة بعنوان «تأثير العلاج بالمرآة في علاج آلام الأطراف الوهمية لمن بُترت أطرافهم»، وذلك ضمن عدد يناير (كانون الثاني) الحالي من المجلة الأوروبية للألم «European Journal of Pain»، وتناولوا تقييم مدى جدوى هذه الوسيلة العلاجية في حالات «ألم الشبحPhantom Limb Pain»، أو الآلام الوهمية، التي تعاني منها نسبة عالية من المرضى الذين جرى لهم بتر أحد الأطراف «Limb Amputation» (السفلية أو العلوية)، وقيَّم الباحثون الفرنسيون من جامعة مونبلييه، ومركز «سي إتش يو» الطبي في مونبلييه، و«كلينيك دي لا ليروند» في سان ماثيو دي تريفي بفرنسا، نتائج 5 دراسات طبية سابقة فقط حول هذا الأمر، وأفادوا بأن «العلاج بالمرآة هو استراتيجية علاجية واعدة، لكن فعاليته في تخفيف آلام الشبح الوهمية لا تزال مثيرة للجدل». وأضاف الباحثون: «خلصت عدة دراسات مراجعة علمية تحليلية سابقة إلى أن العلاج بالمرآة فعّال في تقليل آلام الأطراف الوهمية»، ولكنهم عقّبوا بقول إن ثمة حاجة إلى مزيد من الدراسات، وأن هناك نقصاً في الأدلة القوية على جدوى هذه الوسيلة العلاجية؛ بسبب عدم شمول تلك الدراسات أعداداً كبيرة من المرضى.
وقبل الفرنسيين، كان باحثون بريطانيون من «معهد أبحاث القلب والأوعية الدموية» بجامعة رويال هولواي في لندن، قد نشروا، ضمن عدد أبريل (نيسان) 2022 من المجلة الطبية البريطانية BMJ Mil Health، دراستهم بعنوان «فعالية العلاج بالمرآة وعلاج الواقع الافتراضي VR في تخفيف آلام الأطراف الوهمية». وفيها راجع الباحثون نتائج 15 دراسة طبية عالمية حول هذا الأمر، وقالوا: «ألم الأطراف الوهمية هو شكل من أشكال الألم المزمن المنهك، الذي يؤثر على حوالي 100 مليون مبتور في جميع أنحاء العالم. والعلاج بالمرآة والواقع الافتراضي هما نوعان من العلاجات شائعة الاستخدام، وقمنا بتقييم معدلات نجاح كل منهما». وأوضحوا، في نتائجهم، أن «العلاج بالمرآة كان فعّالاً في تخفيف ألم الأطراف الوهمية». وأضافوا بما يشير إلى ضرورة إجراء المزيد من الدراسات والتجارب حول هذه الوسيلة العلاجية المُحتملة الجدوى، بقولهم: «ونظراً للعدد المحدود من الدراسات المتوفرة، لا يمكن استكشاف عوامل مثل الجنس وسبب البتر وموقع فقد الطرف أو طول الفترة الزمنية منذ البتر، والتي قد تؤثر على نجاح العلاج».
علاج اضطرابات الحركة
وتذكر «المؤسسة القومية للصحة» بالولايات المتحدة «NIH» أن دراسة بعنوان «علاج صندوق المرآة كخيار علاجي لاضطرابات الحركة الوظيفية MIMIC»، يجري إجراؤها حالياً من قِبل باحثين من «كليفلاند كلينك» في أوهايو، وبدأت الدراسة، في يونيو (حزيران) 2018، وأن التقدير لانتهاء الدراسة هو في يوليو (تموز) 2023، وأفادت بأن «الغرض من هذه الدراسة هو التحقيق في إمكانية استخدام علاج صندوق المرآة Mirror Box Therapy بوصفه أسلوباً علاجياً بين المرضى البالغين الذين يعانون من رعاش لا إرادي Tremor، ثنائي أو أحادي الجانب في اليدين بوصفه أحد مظاهر اضطرابات الحركة الوظيفية. ومن المفترض أن تؤدي جلسات علاج المرآة القصيرة والمفردة داخل العيادة، إلى انخفاض ملحوظ في شدة رعاش الحركات اللاإرادية المرتبطة باضطرابات الحركة الوظيفية».
وضمن عدد 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2022 من مجلة الهندسة العصبية وإعادة التأهيلJournal of NeuroEngineering and Rehabilitation، نشر باحثون ألمان ونيوزيلنديون دراستهم بعنوان «الجدوى والتأثيرات النفسية الفيزيائية للعلاج بالمرآة القائم على الواقع الافتراضي». وأفاد الباحثون من جامعة أوتاجو في دنيدن بنيوزيلندا، ومن مركز أبحاث السكتة الدماغية بجامعة برلين للطب، بأنه «يجري، وبنتائج إيجابية واعدة، استخدام الواقع الافتراضي بوصفه وسيلة تكنولوجية لتقديم تدخلات العلاج بالمرآة، مع الأشخاص بعد السكتة الدماغية»، وذكروا أنهم طوّروا تقنية جديدة تسمح للأشخاص بعد السكتة الدماغية باستخدام بروتوكول العلاج بالمرآة، ضمن شاشات العرض، المعتمَد إكلينيكياً في بيئة افتراضية «VR-Based Mirror Therapy».
وقال الباحثون: «وتُظهر النتائج التي توصلنا إليها أن العلاج بالمرآة القائم على الواقع الافتراضي ممكن. وتظهر تأثيرات مماثلة لتلك الخاصة بالعلاج التقليدي بالمرآة».
والواقع أن المحاولات الطبية في استخدام العلاج بالمرآة لا تقتصر على البالغين، بل حتى الأطفال. وضمن عدد ديسمبر (كانون الأول) الماضي من مجلة «مراجعات علم الأعصابRevue Neurologique» الطبية الفرنسية، عرَض باحثون إسبان دراستهم بعنوان «العلاج بالمرآة عند الأطفال المصابين بالشلل الدماغي التشنجي الأحادي». وأفاد الباحثون من جامعة سان بابلو في مدريد بالقول: «يؤثر الشلل الدماغي التشنجيSpastic Cerebral Palsy الأحادي الجانب على الوظائف الحركية للأطراف العلوية، وقد تكون العلاجات بالمرآة مفيدة، وكان الهدف هو تقييم جدوى ذلك». وشرح الباحثون تفاصيل برنامجهم للعلاج المنزلي ومراقبة ممارسة الأنشطة في الاستخدام التلقائي للطرف العلوي، وقالوا، في نتائجهم: «يُعدّ العلاج بالمراقبة العملية والعلاج بالمرآة جنباً إلى جنب، ممكناً ليجري تطبيقه في المنزل، ويستهدف الأطفال المصابين بالشلل الدماغي التشنجي في جانب واحد». وعلى الرغم من أن هذه الأمثلة وغيرها من الدراسات الطبية التي صدرت، خلال الأشهر القليلة الماضية، لم تقدم نتائج حاسمة حتى اليوم، ولم يجرِ وضع أُطر علاجية وبروتوكولات خاصة في كل حالة مرَضية يُقترح استخدام العلاج بالمرآة فيها، ولا يجري إدراجها ضمن وسائل المعالجة المعتمَدة طبياً في كثير من الحالات المقترحة، فإنها تشير إلى أن ثمة توجهات علمية طبية حثيثة نحو استكشاف المزيد عن احتمالات جدوى العلاج بالمرآة.
المرايا كوسيلة علاجية... صناعة الوهم بخداع مقصود للدماغ
> الدماغ هو مركز التحكم في الجسم، وعليه معالجة المعلومات القادمة من الحواس الخمس. والإبصار هو أقوى الحواس تأثيراً على الدماغ. وفي العلاج بالمرايا يستخدم البصر لعلاج الألم الذي يشعر به الأشخاص الذين بُترت أطرافهم، عن طريق «خداع الدماغ»، والذي بدوره يقوم بـ«خداع الشعور بالألم»، فهو يعطي الوهم بأن الطرف المفقود يتحرك، بينما في الواقع يرى الشخص في المرآة الطرف الحقيقي المتبقي. وبهذه الطريقة يتجاهل الدماغ حقيقة أنه لا يتلقى أية إشارة للحركة من الطرف المبتور نفسه، كما أن الواقع الافتراضي أداة واعدة تقدم بيئات تفاعلية وواقعية وقابلة للتعديل، قادرة على خداع الدماغ بطرق أكثر تعقيداً.
وضمن مراجعة علمية بعنوان «العلاج بالمرآة: تدخل محتمل لإدارة الألم»، في مجلة الجمعية الطبية البرازيلية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، أفاد باحثون بريطانيون من جامعة ليدز بأن العلاج بالمرآة هو علاج غير دوائي وغير مكلِّف وآمن وسهل الاستخدام، في تخفيف الألم. وموانع الاستعمال والآثار الجانبية قليلة. وفي العلاج بالمرآة يجري وضع المرآة في موضع بحيث يمكن للمريض أن يرى انعكاساً لجزء من الجسم، ويستخدم لعلاج آلام الأطراف الوهمية، ومتلازمة الألم الموضعي المعقدComplex Regional Pain Syndrome، والاعتلال العصبي Neuropathy، وآلام أسفل الظهر. ويضيفون: «لا تزال آلية عمل العلاج بالمرآة غير واضحة تماماً، حيث إن إعادة دمج الأنظمة الحركية والحسية (في الدماغ)، وعودة ترميم صورة الجسم (في الدماغ)، والتحكم في تجنب الخوف (النفسي والبدني)، كلها آليات من المحتمل أن تؤثر على النتيجة. والأدلة العلمية على الفعالية الإكلينيكية للعلاج بالمرآة مشجِّعة، لكنه ليس نهائياً بعد».
ويضيف الباحثون البريطانيون: «ثمة أساس منطقي فسيولوجي، حيث يشيع استخدام العلاج بالمرآة لتقليل القلق والخوف من الحركة، والتهديد المتصور المرتبط بحركة أجزاء الجسم المؤلمة. ويجري تحقيق ذلك من خلال خلق وهم بصري لطرف صحي يتحرك بشكل طبيعي موجود في المكان نفسه من الفضاء، مثل الطرف المؤلم المختبئ خلف المرآة. إن التغذية الراجعة البصرية لطرف متحرك طبيعي تكسر الرابط بين الألم والخوف من الحركة، نتيجة التلاعب بالتكامل الحسي والحركي داخل الجهاز العصبي المركزي، وعبر استخدام المعلومات الحسية لمقارنة النية بالأداء، ويجري تحديث الأوامر الحركية لتعديل التناقضات؛ لضمان تطابق الحركة مع النية».
إيزوبتروفوبيا... رهاب الخوف من النظر إلى المرآة
> الخوف «Fear» من بعض الأشياء والذي يجعلك تشعر بعدم الأمان أو عدم الراحة منها، هو أمر شائع، كخشية الكثيرين من وخزات الإبر أو الطيران أو الثعابين أو الصراصير.
وبالرغم من أن هذه الأشياء قد تسبب القلق، فإن التفكير فيها لا يعطل الحياة اليومية للشخص، أما الرهاب «Phobia» فهو مشاعر «خوف شديدة» يصعب تخلص العقل منها، ويبذل المُصاب قصارى جهده لتجنب المواقف التي تسبب له الرهاب، ويمكن أن تتجاوز هذه الجهود التفكير العقلاني، وتزداد الحالة سوءاً بمرور الوقت.
والمرايا جزء من الحياة اليومية، لكن بعض الناس لديهم مشكلة معها. يقول أطباء «كليفلاند كلينك»: «رهاب إيزوبتروفوبيا Eisoptrophobia هو خوف غير صحي من المرايا. يخشى بعض الناس المرايا بسبب مشكلات الصورة الذاتية، وقد يتجنب الناس أيضاً المرايا لأنها تشوِّه شكل الجسم. ويؤدي هذا الرهاب إلى تغييرات في نمط الحياة لتجنب مواجهة المرايا».
وبالرغم من عدم معرفة الأطباء آلية نشوء هذه الحالة لدى البعض، فإن لها أعراضاً ذات مزيج من السلوكيات السلبية والاستجابات الجسدية. ويوضح أطباء «كليفلاند كلينك» أن الأعراض السلوكية السلبية تشمل: اللجوء إلى عدة تغيرات لتجنب المرايا، كإزالة المرايا من المنزل، وعدم شراء مجموعات المكياج التي تحتوي على مرايا، وتجنب النزهات العامة خوفاً من مواجهة المرآة، وتحاشي التسوق خوفاً من الواجهات الزجاجية للمتاجر. ويضيفون عدداً من الاستجابات الجسدية، كالقشعريرة، والدوخة والدوار، والتعرق المفرط، وخفقان القلب، والغثيان، وضيق التنفس، واضطراب المعدة.
ووفق ما تشير إليه مصادر الطب النفسي، يبقى العلاج الشائع لرهاب إيزوبتروفوبيا هو «العلاج بالتعرّض». وقد يبدأ علاج التعرض لرهاب إيزوبتروفوبيا من خلال النظر إلى «صور» فيها مرايا. وبمرور الوقت، قد يتقدم المريض في النظر إلى المرايا الحقيقية. ومع العلاج الناجح تصبح رؤية المرايا أقل إزعاجاً، كما قد يساعد العلاج السلوكي المعرفي «CBT» في استكشاف الأفكار والمشاعر المرتبطة برهاب المرايا.