العقل المؤقت

منذ 1 سنة 189

نقول إن فلاناً تفكيره عقلاني، ونعني أنه ملتزم بالتأسيس المنطقي لقناعاته. لكن التفكير العقلاني أوسع من قواعد المنطق، إلا إذا توسعنا في تطبيق هذه القواعد، فقلنا مثلاً إنها تنطبق على كل تفكير يتبع مساراً معروفاً مترابطاً، بحيث يمكن للنهايات أن تفسر البدايات، تفكير يمكن لكل من اتبع مساره نفسه، أو التزم بقواعده نفسها، أن يصل إلى النتائج ذاتها.

ومن أركان التفكير العقلاني، أن المعارف والأعراف والعلوم والأخلاقيات والجماليات، جميعها مؤقتة، بمعنى أنها تعبير عن مستوى ذهني - معرفي، أو هي مرحلة في فهم الذات والعالم، ما إن تتحقق أو تتجلى حتى يتجاوزها العقل إلى ما وراءها. التفكير مثل النهر، كلما استلم موجة دفعها واستلم غيرها. ولو توقف عن هذا الفعل لركد الماء وتحول النهر إلى مستنقع آسن.

وقد تأملت يوماً في نواعير الماء التي تشتهر بها مدينة حماة في غرب سوريا، ولفت نظري خصوصاً أن الغرض الوحيد لهذه الآلة الجميلة، هو ملء أوعية الماء وحملها إلى الأعلى. فما إن تصل الدلاء إلى قمة العجلة، حتى تسكب الماء كله، ثم تعود إلى القاع كي تملأ الدلاء من جديد. قلت في نفسي إن عقل الإنسان يشبه - من أحد الوجوه - هذه الناعورة، كلما تخيل الإنسان أنه امتلأ بمعرفة من نوع ما، سكبها في الجانب الآخر وعاد إلى البحث عن غيرها، مثلما فعلت الناعورة حين ملأت الوعاء وحملته إلى الأعلى، فألقت به وذهبت تأخذ غيره.وهذا يوضح معنى زعمنا بأن المعارف مؤقتة. وأظن أن الفيلسوف المعروف كارل بوبر (1902-1994) هو أفضل من وصف هذه الحقيقة، حين قال إن النظريات العلمية لا تحكي حقيقة ولا تصف حقيقة، بل هي ببساطة احتمال راجح في وقته probability، والإعلان عن أي نظرية هو بذاته المسمار ألأول في نعشها. فما إن يعرف الناس بها حتى يهلكوها درساً وتجريباً، فيكشفون عن عيوبها، فيقترحون صيغة أرفع منها أو نظرية بديلة عنها. وهكذا تتحول من احتمال راجح في وقته، إلى احتمال مرجوح، ثم يتركها الناس إلى غيرها، وهكذا يتقدم العلم.

النظريات التي نؤمن بها ونطبقها اليوم لم تنبت في الصحراء، بل كانت ثمرة لمجموع المعارف والنظريات التي سبقتها، ولولا ظهور هذه لما اكتشفنا خطأها، ولولا تخطئتها لما عرفنا البدائل الأفضل منها. ومن هنا قال بوبر بأنه لا بد للنظرية أن تكون قابلة للتفنيد falsifiable كي نسميها علماً. فإن لم تكن قابلة للتفنيد، فهي إما علم زائف أو ميتافيزيقا أو آيديولوجيا، أو أي نوع آخر من المعارف غير العلم.- ترى... هل كانت النظرية التي تخلينا عنها خطأ، فاخترنا البديل الصحيح؟ أم كانت صحيحة لكننا وجدنا ما هو أصح منها؟

الواقع أن هذا السؤال ليس واقعياً وليس مفيداً أيضاً. فما المفيد في وصف نظرية ما بأنها صحيحة أو خاطئة، مع علمنا بأنها - في كل حال - تلعب دوراً في إضاءة الطريق أمامنا إلى النظرية التالية؟. إنها أقرب إلى الجسر الذي حملنا إلى ضفة النهر الأخرى وبقي في مكانه، فهل نشتمه أم نهدمه بعدما تجاوزناه، هل نعدّه جامداً أم كسولاً لأنه لم يرافقنا إلى نهاية الطريق؟

حسناً... هل يمكن تطبيق هذه الأوصاف على المعارف التي تنتمي إلى تراثنا الديني أو القومي أو أعراف مجتمعنا وتقاليده؟

إنني أسمع أشخاصاً يرفضون - من حيث المبدأ - نسبة هذه المعارف إلى العقل. وهم لا يقولون إنها غير عقلانية، بل يقولون إن العقل عاجز عن استيعابها والحكم عليها. وأظن أن السطور السابقة قد أوضحت لماذا نحتاج إلى التفكير العقلاني.