تقول الإحصائيات إن عدد العرب في أميركا اللاتينية حالياً يبلغ نحو 30 مليون نسمة، أكثريتهم استقروا في البرازيل، التي تشكل الجالية العربية فيها سابعَ أكبر مجموعة من المهاجرين. لم ينغلقوا على أنفسهم مثلما حدث في أوروبا وأفريقيا وبعض المدن الأميركية مثل ديترويت ولوس أنجليس وشيكاغو. فالمهاجرون العرب إلى الولايات المتحدة شاركوا بحماس في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ويُحسب حسابهم في التصويت. وكان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب مضرب الأمثال في البذخ المالي الانتخابي المكرس للجاليات، وخاصة العربية منها.
وعلى ذكر الانتخابات الرئاسية فإن أشهر مهاجر عربي إلى الأرجنتين هو كارلوس منعم (سوري) الذي تولى منصب رئيس جمهورية الأرجنتين من عام 1989 إلى 1999 وتوفي في العام الماضي. كذلك أصبح السياسي والصحافي إلياس أنطونيو السقا (فلسطيني) رئيساً لجمهورية السلفادور من عام 2004 إلى عام 2009.
وقد أسس مسلمو السلفادور مركزاً عربياً إسلامياً ولهم نشاطات في مجال الدعوة الإسلامية للحفاظ على هويتهم. وتشكل السلفادور إحدى جمهوريات أميركا الجنوبية الوسطى التي تضم هندوراس ونيكاراغوا وكوستاريكا وغواتيمالا وماناغوا وبيرو وكولومبيا وفنزويلا وبنما والإكوادور ومملكة بليز. ومن مغريات هذه المملكة أنك تستطيع السفر إليها دون تأشيرة (فيزا)، بالإضافة إلى تزويدك بجواز بليز لعام 2022.
ومن المهم أن نعرف أن الإسلام انتشر في هذه المملكة البعيدة ومنها إلى الأميركيتين عن طريق التجار الأفارقة الذين كانوا يتاجرون مع الهنود قبل وصول الملاح الإيطالي كرستوفر كولومبوس بأكثر من أربعة قرون. ومن خصال الأفارقة في بليز وبقية جمهوريات أميركا اللاتينية تجنبهم تماماً تناول المشروبات الكحولية وتمسكهم بالالتزامات الدينية الإسلامية والصلاة خمس مرات يومياً، والصوم في شهر رمضان الكريم والحج إلى مكة المكرمة إذا تحملوا التكاليف. وفشل حكام المملكة والأثرياء في تقليص أعداد المسلمين، لكن حدث العكس.
طبعاً هناك فرق بين أميركا الجنوبية وأميركا اللاتينية. فأميركا الجنوبية هي قارة تشكل إحدى القارتين الأميركيتين، أما أميركا اللاتينية فسميت بذلك لأن غالبية شعوبها تتكلم الإسبانية والبرتغالية، وهي أصلاً لغات لاتينية.
تتمتع بعض دول القارة الأميركية الجنوبية بمستويات معيشية مرتفعة للغاية، أسوة بنظم اقتصادية أوروبية أو أميركية شمالية، فدولة تشيلي - مثلاً - ذات اقتصاد متطور ومستوى معيشي جيد، وهي من أكثر دول القارتين الأميركيتين تحضراً من حيث التنمية البشرية والحرية الاقتصادية وانخفاض الفساد ومعدلات الجريمة مع أن نفوسها أكثر من 18 مليون نسمة. كذلك أوروغواي تُعتبر من أفضل الدول في الديمقراطية والأمان وحرية الصحافة. ويبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الأرجنتين أكثر من 20 ألف دولار أميركي، واقتصادها متنوع وموجه نحو التصدير، وتباريها البرازيل في التنوع الاقتصادي والثقافي والعرقي.
في الواقع أن الصحافة العربية لا تفرد مساحات كافية للتعرف إلى دول أميركا الجنوبية وسكانها إلا في الانتخابات الرئاسية أو المحاولات الانقلابية أو مباريات كرة القدم. مع أن اللغة الأكثر استخداماً في هذه الدول هي الإسبانية والبرتغالية بحكم الاستعمار القديم، فإن هناك أيضاً لغات المهاجرين وأهمها العربية ولغة السكان الأصليين «الكيتشوا» واللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية. وبالأرقام: الناطقون بالإسبانية 214 مليون شخص، والبرتغالية 211 مليون شخص، والكيتشوا سبعة ملايين شخص، والإنجليزية ستة ملايين شخص.
تعاني دول أميركا اللاتينية من أن الولايات المتحدة الأميركية تتعامل معها على أنها حديقتها الخلفية، مثلما كانت أوروبا تتعامل مع الدول الأفريقية، ومثلما تتعامل روسيا مع الدول المحيطة بها بعد أن انشقت عن الاتحاد السوفياتي ونالت عضوية الأمم المتحدة. وتحرص الدول اللاتينية على إقامة علاقات متقدمة مع دول مجلس التعاون الخليجي وتعميق التفاهم المشترك بشأن القضايا السياسية والإرهاب والتطرف، وفي المقدمة القضية الفلسطينية والسلام في الشرق الأوسط، وخاصة في الخليج العربي والبرنامج النووي الإيراني، والعضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي. ولبعض هذه الدول القصّية خبرة واسعة في الاستخدامات النووية السلمية والبيئة والطاقة المتجددة والتنمية البشرية.
وطبقاً للمؤشرات الاقتصادية فإن العلاقات بين الدول العربية والدول اللاتينية شهدت طفرات كبيرة، إذ ذكرت مجلة الإيكونومست البريطانية في أحد تقاريرها أن التدفقات الاستثمارية بين دول الخليج العربي وهذه الدول ارتفعت من ثلاثة مليارات دولار في عام 2003 إلى 17 مليار دولار في عام 2013. وازدادت الصادرات الغذائية من القارة اللاتينية إلى دول المجلس بشكل متميز مقابل الإمدادات النفطية الخليجية.
لقد ذهب الدهر الذي كان العالم فيه يطلق على بعض تلك الجمهوريات اللاتينية مثل هندوراس وغواتيمالا تسمية «جمهوريات الموز»، نسبة إلى شركة الفواكه المتحدة، وهي شركة أميركية متعددة الجنسيات ومساهمة تم تأسيسها في القرنين العشرين والحادي والعشرين. وفي البداية كانت شركة منتجعات في جزر المالديف وتشيلي، وانتقلت التسمية إلى الفلبين وبعض جزر المحيطين الأطلسي والهادي، التي استعمرتها بريطانيا والولايات المتحدة لصناعات التبغ والتعدين. وكادت أستراليا ونيوزيلاندا أن تصبحا من حملة تسمية جزر الموز نسبة إلى شهرتها في هذه الفاكهة اللذيذة. وتحول هذا التوصيف إلى تعبير ساخر لدول فاشلة ومسرحية واستثمارية خاضعة للبنوك القديمة. وقد ابتدعه الكاتب الأميركي أوليفر هنري في مجموعة قصص ألفها في عام 1904 لوصف الدويلات التي باعت مستعمرات زراعية على أراضيها مقابل مردود مالي بخس غير مستَغل. وكانت جمهوريات الموز مسرحاً لحروب عصابات شاهدناها في بعض الأفلام الأميركية والبريطانية عن الحرب الأميركية - الإسبانية والاحتلال الثاني لكوبا وتمرد الزنوج واحتلال نيكاراغوا.
هذا تاريخ جاء وذهب. الآن ازدهرت هذه الدول وأصبحت جمهوريات عصرية متقدمة، وتسعى إلى حجز مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي حين يتم تعديل قانونه ونظامه في ضوء تطورات الحرب الروسية على أوكرانيا. وصارت الصحف الغربية تستذكر هذا التوصيف الفريد كلما ظهرت دولة فاشلة تدير مجتمعاً فاسداً وإرهابياً وخارجاً عن القانون الإنساني والدولي، مثل النظام الإيراني الحالي والدول التي تَدَخَلَ فيها ملالي إيران.
أعود إلى بداية المقال لتأكيد أهمية قيام علاقات سياسية واقتصادية وعمرانية وثقافية متبادلة بين الدول العربية ودول أميركا اللاتينية أو البحر الكاريبي لتحقيق نوع من التعايش الإنساني المفيد في عصر الطاقة النووية وغزو الفضاء وتغيرات المناخ. هذا وقت مناسب لنقول لتلك الدول الجميلة: السلام عليكم.