العرب ممر إجباري لمن ينشد السلام بحق!

منذ 9 أشهر 149

لحظة بلحظة، تنهار أوهام الحكومة الإسرائيلية المتطرفة! وهم عظمة القوة وغرور التفوق، ووهم «ضعف العرب واستغفالهم»، ووهم شطب فلسطين أرضاً، وكسر روحها العظيمة شعباً. إذ تعمي وحشية الانتقام، هذه الحكومة الإسرائيلية عن دروس الفشل. لتبقى الأوهام حاضرة في عقولهم، مثل «وهم طرف مبتور».

من جهتها، مدفوعة بالأوهام ذاتها، تسعى الدبلوماسيات الغربية في سراديبها المظلمة، لتوريط العرب في غسل ما يسيل من دماء الفلسطينيين على يد الإسرائيليين. فلا الدول العربية قبلت «الترانسفير»، ولا انساقت لتصبح شرطياً يقتل الفلسطينيين بالإنابة.

بل ليست تلك نهاية الأوهام الإسرائيلية! إذ تتجلَّى في اعتقادها بأنَّ دافع العرب من مدهم يد السَّلام، ناجم عن وهن حضاري وطمع في تحالف مناهض لإيران، وأعمال ميليشياتها الاستفزازية في أرجاء الإقليم.

وتحسب هذه الأوساط الإسرائيلية أنَّ العرب لا يدركون، أن إسرائيل، منذ «إيران غيت»، مضت بعيداً في توافقاتها مع إيران؛ توزيعاً لمناطق النفوذ، وتصميماً لقواعد الاشتباك، وتقاسماً للمرابح على طول الإقليم وعرضه.

وفي خصومتها «المكتومة» مع إيران، لم تعمل إسرائيل إلا على «قص العشب» ضبطاً للصراع! أما القسمة فكانت مع إيران، وليس مع العرب! وأما المقايضة فكانت تكريساً لدور إيران وتعزيز اختراقها الإقليمي. لكن، ها هي إسرائيل تحصد الآن بئس ما فعلت، وتلاقي بئس سياساتها. ورغم ذلك تستمر الحكومة الإسرائيلية، إلى اليوم، في المكابرة والابتزاز الإقليمي في سعيها لإحياء فرصتها «الضائعة» لتصفية فلسطين نهائياً.

لكن في هذه اللحظة التي تهتز بها غطرسة القوة الإسرائيلية، وفي لحظة يتم بها تحجيم عدوانية الأذرع الإيرانية، وفي لحظة ترتبك فيها الاستراتيجية الغربية والأميركية؛ يرتقي التنسيق والتلاقي في المصالح الوطنية للدول العربية الرئيسية، لدرء ذلك الكمّ المهول من المخاطر الذي يتربص بالإقليم.

يفاقم الاندفاع الأهوج للحكومة الإسرائيلية من مخاطر اشتعال الإقليم، بما يحمله من تهديدات مباشرة على أمن الدول العربية. فكلما تجاهلت حكومة إسرائيل المخاطر الإقليمية لاستمرارها بعدوانها، تضرب إسرائيل بمصالح الدول العربية في الصميم. وبدورها كلما تفاقمت أزمة إسرائيل مع محيطها الإقليمي، تنامى عبؤها على الولايات المتحدة ذاتها، وزادت بالتالي مخاطر جر أميركا لحلبة الصراع. إزاء ذلك، لا تخفي الولايات المتحدة نزقها، بل غضبها. بل، حتى لو أمكن الاستمرار في حصر الصراع في غزة، يرجح أن يواجه التحالف الغربي الداعم لإسرائيل تحديات في الحفاظ على ذخيرته، (بحسب تقرير المعهد الملكي البريطاني المشترك لأبحاث الدفاع).

من جهتهم، عمل العرب على شحذ دبلوماسيتهم المركبة، بل كانت المهمة درءَ دعم الجهود الدولية والإنسانية ومحاولة درء مخاطر انتشار الصراع والعمل على تأمين مخرَج آمن للأزمة لتعافي غزة والانتقال نحو مسار يفضي لحل الدولتين.

لكن، الأعقد كان يكمن في تلك الدبلوماسية المركبة تجاه إيران. فرغم فشل الولايات المتحدة في احتواء إيران تمكّنت الدبلوماسية السعودية والخليجية عامة، من دفع الأدوات الدبلوماسية للتوصل لتوافقات سمحت بمنع انزلاق الخليج العربي نحو المجابهة.

إذ يذكر العرب بوضوح كيف تغاضت الدول الغربية عن قرارات مجلس الأمن، وأدارت ظهرها لتهريب العتاد للحوثيين عن طريق البحر، ما أتاح للحوثيين السيطرة على باب المندب. ويذكرون جيداً، كيف جفلت الدول الغربية وتلطت بالذرائع الإنسانية، في سعيها لوقف تقدم قوات التحالف العربي، حين اقتربت من الحديدة، وكيف تدافعت باسم الإنسانية القوى الغربية لإنقاذ سيطرة الحوثيين على البحر الأحمر.

الآن تولول إسرائيل والقوى الغربية من أذرع إيران ومن القرصنة في البحر الأحمر، بينما تمضي المملكة العربية السعودية في دفع عملية السلام في اليمن إلى الأمام لصالح الشعب اليمني.

وتعلم الولايات المتحدة بدورها، أن تقصيرها في بناء علاقات ثقة جدية مع الدول العربية المشاطئة للممرات التجارية الدولية وربطها العمل المشترك معها بركام من الشروط، هو السبب الرئيسي في التخبط والإرباك الأميركي اليوم في التعاطي مع العبث الحوثي.

فهل تتوقع الولايات المتحدة أن يلاقي ذلك الحشد العارم للقدرات البحرية والبرية الغربية ترحيباً بعد كل هذا، وهل تحسب أنه مصدر طمأنينة للعرب؟ اللهم لا شماتة!!

نعم، في خضم غبار غزة، العابق بدماء أكثر من ستة وعشرين ألفاً، يتبدى أمام إقليمنا وأمام العالم، واقع جديد. فلقد أعاد جموح القتل عند الحكومة الإسرائيلية، ترتيب الأوراق في الإقليم. وبعد القمة العربية الإسلامية في الرياض، تقاطعت أولويات المواقف بين العرب، وتشابكت مصالحها الوطنية في نسيج معقد عززه توزيع الأدوار. فرغم اختلاف النكهات السياسية، تستعيد الدبلوماسية العربية مبادرتها لتغدو الممر الإجباري لكل مآزق الإقليم.

لن يلبث أن يدرك غبار العنجهية الإسرائيلية أن يرقد على أرض الحقيقة، وتنهار بسرعة أساطير «وحدة الساحات»، ويبرد معها التبجح الإيراني بعد أن صار الداخل الإيراني ذاته ساحة محتملة للصراعات. ويبهت يوماً بعد يوم الدعم الغرائزي الأعمى لإسرائيل في الغرب. عندئذ سينقشع هذا الغبار وتنتهي لعبة الأدوار بين إيران وإسرائيل. ولن يكون ثمة مخرَج سياسي لغزة ولا لفلسطين ولا أفق لعودة الاستقرار للإقليم إلا عبر الممر الإجباري للدور العربي.

من دونه سيكون من المستحيل إنشاء ائتلاف سياسي فلسطيني تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، من دونه لن يمكن تكريس دور عربي فعلي يمهد لتعافي غزة. ومن دون العودة للمبادرة العربية سيكون من المستحيل شق الطريق نحو تهدئة الأوضاع في المنطقة، ودفع الأمور نحو حل الدولتين. ولا استعادة الهدوء في باب المندب.

إذ يراقب خصوم الولايات المتحدة الرحلات الأميركية المكوكية في الإقليم وغرقها في مياهه الضحلة، يتحالف المتطرفون من أجل تأبيد الصراعات وإضرامها في الإقليم، وتوريط الولايات المتحدة وصولاً لمرحلة اللاعودة.

وفي حين تبدو الإدارة الأميركية كمن يقف على حافة بركان، لا يخفي خصومها شماتتهم، فـ«يداك أوكتا وفوك نفخ». بينما تمضي إيران، عبر أذرعها المختلفة، في جرجرة أقدام أميركا. بل تعترف الأوساط العسكرية الأميركية بأن نشر السفن الحربية الأميركية والبريطانية في البحر الأحمر سيصبح مهمة مرهقة للغاية. فكيف ستتصرف إذاً بعد مقتل الأميركيين في التنف على يد أذرع إيران؟

هل ستمضي الإدارة الأميركية في إطلاق الحبل على غاربه لنتنياهو أم أنها تعمل على لجم جموحه الانتقامي، لتعبر نحو الجسر الإجباري الذي يمده العرب نحو السلام في الإقليم على طريق «حل الدولتين»؟