العرب أمام سيناريو التناطح الأميركي ـ الإيراني

منذ 1 سنة 209

المواجهة المتوقعة بين إيران والغرب أصبحت أضحوكة؛ لأن أميركا وإسرائيل فشلتا في تنفيذ تهديداتهما، ومضت إيران غير عابئة في بناء برنامجها النووي... لماذا أضحوكة؟ لأن الواقع يُكذِّبُها، بدءاً بتهديد الرئيس بوش الصغير لإيران، مروراً بأوباما ثم ترمب، وانتهاءً بالرئيس بايدن الذي اعترف في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بأن البرنامج النووي أصبح ميتاً. إذن، من الموضوعية القول إن إيران كانت الأصدق، وإن أميركا وحلفاءها كانوا الأكذب: لم يوجهوا ضربة، ولم يفعلوا شيئاً عندما خرج ترمب من الاتفاق، وسرّعت إيران من تركيب الآلاف من أجهزة الطرد، وإنتاج كميات كبيرة من اليورانيوم المخصب الكافية لصناعة قنبلة نووية، بل تجنبوا المواجهة رغم تحرشاتها المستمرة... الآن أصبحت إيران تملك المعرفة التكنولوجية ومخزوناً كبيراً من اليورانيوم المخصب كافياً لصنع قنبلة واحدة. أما لماذا لم تصنعها؟ فهذا يعود إلى أمرين: أولهما أن المرشد الراحل الخميني اعتبر صناعة القنبلة عملاً محرماً، وثانيهما: أنها لا تريد المجازفة بإنجازاتها، وقررت الرد بالانفتاح لنزع المبررات من أعدائها، ولتحصّن نفسها في واقع دولي وإقليمي متغير.

لنعترف بأن السياسة الإيرانية معقدة، وذكية، وواعية لتطورات المنطقة والعالم؛ ما نقصده بالمعقدة أنها تخلق الظروف الملائمة ولا تنتظرها، والذكية أنها تحسب حساباً صارماً لكل خطوة، والواعية أنها تعرف متى تتراجع لكيلا تنسف كل الإنجازات. ودليلنا أن المباحثات الجارية بينها وبين أميركا بواسطة عمانية هي اعتراف أميركي بتجاوز إيران اتفاق عام 2015 النووي، والحاجة لاتفاق جديد يميل لصالح إيران، لقناعة القيادة الأميركية بأن الظروف الإقليمية والدولية تحتم عليها التراجع؛ لأن الخيار الآن بين السيئ والأسوأ؛ السيئ حيازة إيران المعرفة النووية والمواد الكافية، والأسوأ صناعتها التي ستستجر حرباً لا تحبذها أميركا في الظرف الحالي. ولعل إصرار واشنطن على تجاهل رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، وتحذيره من عمل عسكري، مؤشر على رغبة أميركا في تجنب الأسوأ. ولكن السؤال الملح: لماذا خسرت أميركا رهانها مع إيران؟ وكيف ستتعامل مع إيران النووية في المنطقة، وما موقف العرب من تلك التطورات.

أولاً: خسرت أميركا عندما كانت القطب الأوحد في العالم، بغزوها العراق وليس إيران؛ والأنكى تعاونت معها في العراق وأفغانستان وتجاهلت بناءها شبكة من الميليشيات في العالم العربي، لتطويق إسرائيل، والدول المؤيدة للولايات المتحدة. هذا جعل كثيرين في العالم العربي يؤمنون بأن إيران صنيعة أميركية، بينما الواقع أن أميركا اعتقدت بأن الليبرالية ستكون كافية لإسقاط النظام الإيراني بعد أن تتحول المنطقة لديمقراطيات على نسق غربي. ولما سقط المشروع الليبرالي قال أوباما إن إيران تسيطر على ميليشياتها الشيعية ويمكن الحوار معها، بينما الدول العربية لا تسيطر على الميليشيات السُّنية؛ هذا التنظير الأميركي الغبي افترض أن أنظمة الاعتدال العربي صنعت «داعش» وغيره، بينما الواقع أن الإرهاب صنيعة السياسات الغبية لواشنطن وتجاهلها العنف الطائفي الإيراني المولّد لعنف الميليشيات السُّنية.

ثانياً: تغير الواقع الجيوسياسي إقليمياً ودولياً؛ فحرب أوكرانيا وفّرت لإيران دعماً روسياً أكيداً لقاء الدعم الإيراني العسكري لموسكو؛ هذا يعني تعطيل أي عمل عبر مجلس الأمن الدولي تحت لواء الشرعية الدولية، كما أن التنافس الصيني - الأميركي سمح لإيران بأن توسّع مصالحها مع الصين، وتغري القيادة الصينية بأدوار كبيرة في المنطقة من خلال تنازلها لوساطات صينية على غرار التقارب الإيراني - السعودي الأخير. فإيران تؤمن بالتنازل في مرحلة لتجنب أخطار أكبر في مراحل مقبلة، وذلك ضمن سياق يعزز مكاسبها ما دامت أوراق التنازل يمكن إعادة تدويرها وتفعيلها بما يخدم مصالحها.

ثالثاً: جربت الإدارة الأميركية أخيراً كل شيء ما عدا العمل العسكري لوقف برنامج إيران ولكن دونما جدوى، بل استطاعت إيران أن تربك أميركا من خلال انفتاحها المدروس على دول العرب، بعدما أدرك العرب أن أميركا وحلفاءها عاجزون، ولا يهتمون لحلفائهم، وبالتالي لا بد لهم من قلع شوكهم بأيديهم... هذا بذاته خسارة مضاعفة للغرب؛ لأن منافسهم الصيني أصبح أقوى في منطقة حيوية تجارياً وفي مجال الطاقة، ولأن حليفتهم إسرائيل أصبحت مهددة نووياً من إيران، وعلى هذا فإن العرب سيطالبون أيضاً ببرامج نووية سلمية مع اشتراط حيازة التكنولوجيا المعرفية وكذلك تركيا. هذا يعني عملياً سقوط اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية، وما يستتبع ذلك من أضرار على المنطقة والعالم.

إزاء هذا الواقع، لا تجد إدارة بايدن أي خيار لها سوى الحوار على أمل وقف التخصيب النووي الإيراني؛ لأنها لا تريد تشتيتاً لانتباهها في منطقة ليست فيها أولوية لمصالحها الآن، بل المصلحة تكمن في هزيمة روسيا، وتطويق الصين في المحيطين الهادئ والباسيفيكي؛ ولأن إيران تدرك ذلك فإنها تحاور من موقع اغتنام الفرصة لتعظيم مكاسبها، ولمنع أميركا من اللجوء إلى خيار الحرب، بوصفه خياراً قسرياً. هنا يبدو الموقف العربي منسجماً مع التغيرات في المنطقة لقناعة عربية رائدة بأن الحرب لن تكون في صالحها، لا سيما أن كيانات عربية بعد «الربيع العربي» انهارت، ولم يعد لها من جامع، والأولوية الآن لجمع الصف العربي، إن أمكن، لمواجهة تحديات أصعب مما مر؛ ولكي تتجنب هذه الدول الحرب عليها أن تستعد لها، ولعل المفاوضات مع إيران تعتبر وسيلة لالتقاط الأنفاس، وبناء الذات، والتوصل إلى رؤية عربية لبناء توازنات وتحالفات عسكرية، وتشبيك المصالح التجارية مع الدول لتعديل موازين القوى. ولكون أميركا تسعى لتوسيع «اتفاق أبراهام» نظراً لأنه يحقق توازناً مع إيران، على هذه الدول العربية أن تصر على خطة السلام العربية؛ لأن قبول إسرائيل بها يربك إيران، ويسقط شعار تمددها في المنطقة. إن العرب على الرغم من ضعفهم الظاهر فإن لديهم مخزوناً من القوة، ولن تكون التغيرات الجارية ضدهم إن أحسنوا فهمها، وتعاونوا وتكتلوا. مأساة إن لم يفعلوا.