العراق ورفعة الجادرجي... آلام وأوجاع!

منذ 1 سنة 407

يوصف العراق بأنه بلد تاريخي ومهد للحضارات القديمة المؤثرة من أمثال السومرية والبابلية والكنعانية والكلدانية والإسلامية، والوجود الفسيفسائي الفعال لأمثال اليهود والمسيحيين والصابئة واليزيديين والمسلمين بأطيافهم ومذاهبهم، وتشهد مواقعه التاريخية في أمكنة مثل يور وبابل وغيرهما على البعد التاريخي الاستثنائي للعراق الذي ميَّزه دوماً عن غيره.
ولكن بقدر ما للتاريخ العراقي من جاذبية هائلة تثير الفضول والإعجاب هو أيضاً يثير التعجب متى ما قيس بالواقع المعاصر والتاريخ القريب، ويطرح أسئلة عن سبب عدم نجاح الدولة العراقية في الوصول للطموح المتوقع والمنطقي لدولة بحجم هذا التاريخ الرائع. وهنا تظهر حالة الحزن الشديد المصاحب لتاريخ العراق المرتبط بالإخفاقات وعدم بلوغ الأحلام والمآسي المصاحبة. وهي المسألة التي وصفها الكاتب العراقي الأصل نجم عبد الكريم بقوله: «عيني... فينا بكوة!».
وإذا كان من الممكن أن تكون قصة شخص توازي قصة وطن برمزية عميقة وشديدة بالغة الدلالة فهذا من الممكن أن ينطبق على قصة المهندس المعماري العراقي الشهير الراحل رفعة الجادرجي التي كتبتها زوجته بلقيس شرارة بعد رحيله، وهو كتاب ممتع وشيّق وحزين، وكأنها رواية على لسان المطرب العراقي الأشهر ناظم الغزالي وهو يشدو بقوله: «أقول وقد ناحت بقربي حمامة».
الكتاب يروي حياة المعماري الفذ الذي لم يقتصر تميزه على مجال التصميم المعماري ولكنه كان كاتباً فذاً له مؤلفات كثيرة ومصوراً بارعاً. كان في مخيلته الكثير من المشاريع المميزة الخاصة بتصاميم تعني أهم أحياء العاصمة العراقية بغداد. الرجل كانت له فلسفة خاصة للحياة أهم بنودها أن الحياة قصيرة مهما طالت، وأن علينا سداد الدين مهما تأخر، وأن الشيء الوحيد المهم هو الأثر الذي تتركه بعد الرحيل.
تميز رفعة الجادرجي بالقدرة الهائلة على التركيز والدقة في التعبير وحرية البحث والتقصي، مما أعانه على تنظيم حياته ومساره الفكري.
وصُدمت أحلام وطموحات رفعة الجادرجي بالواقع السياسي المؤلم في العراق وتم سجنه بتهم ملفَّقة، للقضاء على تميزه، وكانت هذه اللحظة التي تحطم فيها الحلم الوطني، وقرر الهجرة من العراق إلى بريطانيا بعد وقفات في العالم العربي للعمل والإنتاج.
كأن العراق تتكرر مأساته بشكل مصغر في رفعة الجادرجي. رفعة الجادرجي الذي سبق زها حديد، المعمارية العراقية الأشهر، وكان النجم اللامع في سماء التصميم، قُضي على حلمه سياسياً في البلد الذي تمنى الموت إبداعاً فيه ولم يُكتب له ذلك.
«اليدري يدري والمايدري گضبة (قبضة) عدس»، قد يكون هذا المثل العراقي القديم أبلغ توصيف لحالة العراق ورفعة الجادرجي وشرحاً مختصراً وساخراً للمشهد الكبير.
تجيء السيرة الذاتية لحياة وخيبة أمل الراحل رفعة الجادرجي والتي شملت فصولاً مؤلمة ومواقف حزينة وتجبر القارئ على التفكير والتأمل والسؤال عن الذي كان من الممكن أن يكون لو تحققت أحلامه؟ تجيء في ظرف سياسي واقتصادي واجتماعي دقيق يهدد وحدة العراق جغرافياً والسلم الأهلي، وتُبرز خطورة الخطاب الطائفي الذي يطغى على خطاب المواطنة مما قد يشكل فصلاً جديداً من فصول الإحباط في العراق.
تأخذنا بلقيس شرارة برحلتها مع رفيق فكرها وزوجها المعماري رفعة الجادرجي، وتعطينا دروساً في الحياة وكيفية مواجهة الصعاب معه، و كيف يتم تشويه التاريخ، وكيف أن للحرية والفكر ثمناً، وأن الوقت ثمين لأصحاب الفكر والعلم.
تربى في أصول ثرية وخلق عالماً أكثر ثراءً. كما عمل بجد وتواصُل على تطوير معارفه ومهاراته الأكاديمية والعملية على مدار أكثر من ستة عقود. عاصر وتعرّفَ وعمل مع كبار المعماريين العالميين، وناقش كبار فلاسفة ومؤرخي العمارة، وأثرى نشاطه الدائم بجوانب مرتبطة بالعمارة كالتصوير الفوتوغرافي والرسم والنحت والأنثروبولوجيا والفلسفة.
سلَّطت كاتبة السيرة بأسلوب أدبي رفيع الضوء على جوانب اجتماعية في حياة رفعة الجادرجي وسيرته المهنية مع مجايليه، وأبرزت الكثير من أفكاره ونمط معيشته، وجعلتنا نعيش يومياتهم ونتفاعل معها بإعجاب وفخر.
تسرد بلقيس أهم المحطات التي مر بها زوجها رفعة في حياته، وتنتقل من محطة لأخرى تصف فيها المشاعر والأحداث التي مرّت عليه، بتنوعها، وملئها بالفكر والنشاط والإبداع حتى في أصعب المحطات، وهي الاحتجاز في السجن وفراق الأهل والأصدقاء.
أدّت به هذه المرحلة لأن يصبح نسخة أفضل من نفسه، ويحارب الوضع الذي أُجبر على أن يعيشه، فضلاً عن ضبط نفسه بصورة أكبر من ذي قبل.
تعد سيرة المعمار رفعة ملهمة لكل شخص بأن يسعى لتحقيق ما يحلم ويفكر به، ويتحدى الصعاب التي تواجهه، وأن يعيش حياته ويستمتع بها مع الأهل والأصدقاء والموسيقى والغناء، وأن يفيد ويستفيد من وجوده إلى حين وصوله إلى المحطة الأخيرة. ولكنها تعيد فتح السؤال الأكثر إيلاماً وهو: لماذا لا ينجح بلد مثل العراق لديه المقومات كافة من ثروات بشرية وثروات طبيعية ومياه وزراعة وتاريخ؟ سؤال مستمر لعل الإجابة عنه تزيل الحزن عنه.