العام الذي ستنهار فيه أميركا

منذ 1 سنة 187

في عام 1787 تنبأ السياسي الأميركي باتريك هنري بانهيار الولايات المتحدة الأميركية عندما قال إن أميركا فقدت حيويتها وشبابها. كان ذلك بعد ما يقارب عشرة أعوام فقط من استقلال الجمهورية الوليدة. كان ربما أول المتنبئين بالانهيار ولحقه عشرات من الساسة والكتاب والمفكرين المؤمنين بذات النبوءة، حيث وضع بعضهم سنوات محددة لحدوث الانهيار، ولكننا نعرف أن كل هذه التنبؤات لم تتحقق، حتى وإن اكتسب مروجوها الشهرة والمال لأن هناك تجارة قائمة على هذه البضاعة الرائجة.

مؤخراً نسمع ذات الفكرة خصوصاً بعد التضخم الاقتصادي وإدارة بايدن المتخبطة وقبله إدارة ترمب المضطربة وأزمة الدين والانسحاب الأميركي من أفغانستان والخروج من العراق والصدام الحزبي، والمشاحنات الثقافية الداخلية بسبب قضايا مثل: الهوية الجنسية وقضية اللاجئين وغيرهما من الملفات الساخنة. ولكن كل هذه المبررات تجعلنا وكأننا نرى فيلماً مكرراً مرة بعد أخرى من كتّاب سيناريو يحولون رغباتهم وأمنياتهم وعداواتهم إلى نظريات مخترعة ولا يتحقق منها شيء على أرض الواقع.

لفهم أكثر لقصة «الانهيار الوشيك لأميركا» المكررة يجب أن نطرح على أنفسنا سؤالين: لماذا يتم تكرارها باستمرار؟ والسؤال الثاني: ما مؤشرات الانهيار الحقيقية؟

الجواب عن السؤال الأول يتعلق بنظرة خاطئة لتاريخ الولايات المتحدة ومقارنتها بالواقع الحالي. هناك نظرة مخترعة لتاريخ الولايات المتحدة غير دقيقة وتصورها بأنها قوة لم تهزم، ولهذا مع كل فشل تعود النظرية للبروز مرة أخرى. على سبيل المثال خروج الولايات المتحدة من العراق وبعد ذلك من أفغانستان، لا يقارن بخروج أميركا من فيتنام (ما يقرب من 58 ألف أميركي قتلوا في تلك الحرب التي وصل ضحاياها من جميع الأطراف لما يقارب مليونين)، والحرب الكورية التي فقدت فيها أميركا أكثر من 35 ألفاً و100 ألف جريح. بسبب هذه الهزائم المذلة راجت نظريات الانهيار ولكنها لم تحدث رغم مرور أكثر من 50 عاماً على تلك الحروب.

هناك من يقول إن عدم قدرة أميركا على إدارة العالم بالطريقة التي تراها علامة أكيدة على اهتزاز مكانتها، ولكنهم مرة أخرى يخطئون في قراءة التاريخ. الثورة الشيوعية في الصين عام 1949 كانت كارثة على المصالح الأميركية التي لم تفعل معها شيئاً. بعدها الحرب الكورية، تدخلت فيها أميركا وخرجت منها كما دخلت إليها. القوة المتصاعدة للاتحاد السوفياتي أيضاً لم يكن بمقدور الولايات المتحدة تحجيمها والعديد من القادة مثل عبد الناصر اختاروا مقاومتها ولم تستطع وقف حلفائها فرنسا وإنجلترا وإسرائيل من شن حرب 1956. أحداث عديدة ترسم الصورة الحقيقية وليست المتوهمة الخارقة لطبيعة القوة الأميركية، ولهذا ما نراه الآن وتعثرها في أفغانستان والعراق لا يعني مؤشرات لتراجع قوتها لأنها خرجت من أزمات أكبر.

الخلافات الداخلية السياسية الحادة ليست جديدة ولكن زادت سخونتها بعد وصول ترمب وخروجه وحادثة اقتحام الكونغرس. ولكنها في الواقع تعد أحداثاً صغيرة إذا ما قورنت بمرحلة الستينات والسبعينات حين اغتيل الرئيس الأميركي جون كينيدي، واستقال رئيس أميركي آخر من منصبه، نيكسون، وصفيت شخصية كبيرة مثل مارتن لوثر كينغ. كل هذه أحداث جسام لا تقارن بتغريدات ترمب التي يرسلها وهو مستلقٍ على سريره المرصع بالذهب أو تعتعات وسقطات بايدن المحرجة وهو ذاهب لتناول آيس كريم الكوكيز.

بالنسبة للخلافات الثقافية حول الهوية الجنسية والعائلة كانت هناك خلافات أشد وأقسى في عقود تلطخت فيها سمعة الولايات المتحدة بسبب العنصرية والفصل بين الجنسين في المطاعم والمدارس ونتذكر صورة الطلاب السود الذين يتعرضون للإهانات والبصق من السكان البيض. وصور الكلاب بيد الشرطة أثناء المواجهات مع المتظاهرين المطالبين بالمساواة العرقية. كان المجتمع حينها منقسماً ومضطرباً والمعارك الحالية التي تخاض على «تويتر» و«تيك توك» تعد نزهة لطيفة بالمقارنة معها، وبالتأكيد لا تدل على قرب اندلاع حرب أهلية تتسبب في انهيار أميركا.

هل يُعد الكره لأميركا حول العالم مؤشراً على انهيارها؟ ولكن متى كانت محبوبة شعبياً؟ قبل أكثر من 60 عاماً اضطر الرئيس أيزنهاور إلى عكس مسار طائرته المتجهة إلى اليابان بسبب التظاهرات ضده وعدم قدرة القوات اليابانية على تأمين سلامته. جورج دبليو بوش بعد حرب العراق ليس المكروه الوحيد والتظاهرات التي عمت العالم بسبب حرب فيتنام أوسع من كل التظاهرات التي تحرق العلم الأميركي في دول عديدة.

كل ما سبق هو إجابات عن السؤال الأول، نظرة رومانسية للتاريخ هي سبب هذا الخلط في الرؤية. أما الإجابة عن السؤال الثاني: ما المؤشرات على الانهيار الحقيقي؟ باختصار هي انهيار القوة العسكرية والاقتصادية وتفوق قوى أخرى عليها. تاريخياً، الإمبراطورية البريطانية انهارت بعد تراجع قوتها العسكرية والاقتصادية مقابل القوى الصاعدة.

انهيار الإمبراطورية البريطانية كان على عقود طويلة ولأسباب جذرية. حصتها في التصنيع العالمي كانت في أعلى مراحلها عام 1870 عندما كانت 30 في المائة, ولكنها هبطت في عام 1910 لتصل إلى 15 في المائة بذات الوقت الذي زاد تصنيع الولايات المتحدة ليصل إلى 25 في المائة.

قوتها البحرية الضاربة التي كانت سيدة المحيطات والبحار بسفنها الحربية التي تدمر كل من يقف أمامها وصلت ذروة مجدها عام 1883 ولكن خرجت من المنافسة عام 1897 أمام الأسطولين الأميركي في الشرق والياباني في الغرب.

لكن هذا بالتأكيد لا ينطبق على الولايات المتحدة التي ما زال إنتاج اقتصادها العالمي الذي يصل إلى الربع لم يتغير منذ 1969 وحتى اليوم (كان 50 في المائة بعد الحرب العالمية الثانية) وإنفاقها العسكري هو الأعلى (ميزانية الدفاع لعام 2022 وصلت إلى 766 مليار دولار). قبل أعوام راجت نظريات صعود البقية وكان من الدول المذكورة روسيا المتعثرة الآن في وحل الحرب الأوكرانية وتركيا التي خسرت عملتها أكثر من 70 في المائة من قيمتها.

انهيار القوى العظمى والإمبراطوريات يحدث على مدار عقود ويعود لأسباب حقيقية واقعية ومعايير واضحة وليست رغبات عاطفية وقراءة غير دقيقة للتاريخ ودعايات مبالغ فيها. التاريخ يعلمنا أن هذه القوى تنهار في نهاية المطاف لأسباب موضوعية، ولنتذكر أن الإمبراطورية الرومانية استمرت لـ 600 عام قبل أن تفشل في المحافظة على عناصر تفوقها.