العالم والإقليم يتغيران... فماذا عن العرب؟

منذ 2 سنوات 271

الرئيس بوتين يَعد العالم بالعقد الأكثر صعوبة للانتقال إلى نظام دولي مختلف، بدايته عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا. من جانبه، ردّ جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأميركي بأن حقبة ما بعد الحرب الباردة قد انتهت، ويتم الآن تحديد عناصر جديدة للحقبة المقبلة. لم يتوانَ البنتاغون عن الإدلاء برأي حول المحددات التي ستعمل عليها الولايات المتحدة في السنوات المقبلة؛ حيث روسيا تمثل تهديداً خطيراً، والصين هي التحدي الأكبر، وكلاهما وفقاً لوثيقة البنتاغون قوتان ثوريتان تستهدفان تغيير أسس النفوذ الأميركي، لكن الحرب والصراع العسكري المباشر مع الصين ليس قدراً محتوماً، أما المنافسة الحادة فلا مفر منها.
المدخلات على قمة النظام الدولي تشي بأن المرحلة المقبلة ليست سوى عملية كبرى لغربلة الملفات المختلفة، بما في ذلك التحالفات، حيث أقرت الصين بأنها ستتوسع في علاقاتها مع روسيا في المجالات كافة، منها العسكرية التي أقرّ الرئيس بوتين في لقاء «فالداي» الـ19 بأنها تتطور بأعلى درجات من السرية، بينما تمارس بكين أيضاً عملية بناء تحالفات مع دول المحيط الهادي، ما يقلق الولايات المتحدة رغم تحالفاتها الأمنية والعسكرية الصاعدة مع أستراليا واليابان والهند وكوريا الجنوبية. وفي السياق ذاته، تتفرد حركة كوريا الشمالية على عدة مستويات، منها دعم وتأييد روسيا وعمليتها العسكرية في أوكرانيا، ومنها إطلاق عدة صواريخ بعيدة ومتوسطة المدة لاختبار فاعليتها من جهة، وتوجيه رسالة إلى الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية من جهة أخرى، والاستعداد لعمل نووي في مواجهة الخصوم إن استدعى الأمر ذلك، حسب ما ظهر جلياً في إشراف الزعيم الكوري الشمالي على تدريب نووي تكتيكي، رغم تحذيرات واشنطن الزاعقة.
صيغ التحالفات العسكرية والأمنية بأشكالها ومساراتها القديمة والجديدة مقدمة لإعادة رسم العلاقات والتوازنات بين الدول الكبرى، بما يحمى مصالح كل طرف في مواجهة الآخر. الأمر ذاته يمتد إلى الشرق الأوسط، فهو أيضاً يتحرك ومعه تتعرض روافد جديدة وقديمة للتغيير. فتركيا التي أعلن رئيسها إردوغان وثيقة حزبه المعنونة بالقرن التركي، دشن خطوة أخرى لتعزيز التفاعل الأمني مع إسرائيل، بلقائه وزير الدفاع غانتس الذي يخوض منافسة حامية في الانتخابات الإسرائيلية الخامسة، التي تتوقع استطلاعات الرأي فوز نتنياهو وحلفاؤه اليمينيون المتطرفون بها وتشكيل الحكومة الجديدة.
التعاون الأمني التركي الإسرائيلي مُحاط بعدة قيود وفرص في الآن نفسه، سواء لاعتراضات تل أبيب على استضافة أنقرة مكتباً لـ«حركة حماس» ، يُتهم إسرائيلياً بأنه يدير «عمليات الفوضى» الجارية في الضفة الغربية المحتلة، وليس واضحاً ماذا ستفعل أنقرة، هل ستلبي المطالب الإسرائيلية بإغلاق المكتب أو تضع بعض القيود على حركته. ومن الفرص أيضاً تعزيز التحالف بدعم أذربيجان، التي هي مصدر قلق بالنسبة لإيران، نظراً للوجود الإسرائيلي المُتصاعد فيها، وتبدو براغماتية السياسة التركية جلية في اعتقال إعلامي «إخواني»، في رسالة ترضية لمصر المستاءة من مواقف تركية كثيرة، كما في اتصالاتها مع طهران بشأن سوريا، التي هي مجال لضربات إسرائيلية لا تتوقف ضد الوجود الإيراني فيها، ولا سيما العسكري.
إيران بدورها لا تتوقف حركتها، وتحرص على توطيد علاقاتها العسكرية مع روسيا، التي تنسق بدورها التحركات الإيرانية والتركية في سوريا، وبينما تثبت الحرب في أوكرانيا أن إيران باتت طرفاً مهماً في الحرب من خلال تزويدها الجيش الروسي بالمُسيرات الاستطلاعية والهجومية والانتحارية. مع الأخذ في الاعتبار أنه مهما أمدت طهران روسيا بالمُسيرات، فهي لا تقارن بالكم الهائل من الأسلحة الحديثة التي تقدمها دورياً الولايات المتحدة ودول الناتو لأوكرانيا وفقاً لسياسة عدم السماح بانتصار بوتين بأي شكل من الأشكال، واستنزاف بلاده إلى حد الانهيار، مهما كان حجم الخراب المتراكم في أوكرانيا ومعاناة شعبها، ومعاناة العالم أيضاً.
التحركات الجارية عالمياً وإقليمياً، بما فيها نذر الركود الاقتصادي العالمي، والتضخم المتزايد، وتراجع العملات الوطنية الحاد مقابل الدولار، وغلاء أسعار المواد الغذائية وتراجع المعروض منها عالمياً، ونُذر المجاعات في الدول الفقيرة، والاضطرابات المجتمعية كالتي تشهدها إيران، ومظاهرات الاحتجاج في كثير من الدول الأوروبية نظراً لارتفاع أسعار الطاقة، والدعوات المجهولة التي تموج في وسائل التواصل الاجتماعي وتستهدف إثارة الشعوب على حكوماتها، وتوهم القدرة على استعادة مظاهر الفوضى التي مرت بها بلدان عربية مختلفة قبل عقد مضى، كلها تصب في حقيقة أن السنوات المقبلة مليئة بالضغوط والمفاجآت والانقلابات السياسية في المواقف والانحيازات.
عمليات الاستقطاب الدولي ستكون بدورها عنواناً بارزاً، محاولات جرّ هذا الطرف أو ذاك إلى معسكر أو تحالف أو تجمع ضد آخر، آخذة في التبلور، بعضها مكشوف وظاهر، تُمارس فيه الضغوط والتهديدات كما تُمارس فيه الإغراءات. وبعضها الآخر يتم بهدوء. مفهوم المصلحة التي يوجّه سياسة أي دولة يواجه بدوره نوعاً من التشويه المتعمد، المثل الأبرز يجسده الموقف الأميركي السياسي والدعائي ضد قرار «أوبك بلس» بخفض إنتاج النفط لمدة محددة لاعتبارات فنية واقتصادية بحتة، لكنه قوبل أميركياً بتشويه متعمد ووصفه بقرار سياسي يتطلب عقوبات أميركية ضد الحلفاء. ما يعكس حالة الارتباك الأميركي من جانب، وغياب الرشادة في تقبل التطورات الدولية ذات الطابع المستقل من جانب آخر، والإصرار على صيغة من يختلف معنا فليس منا، وإهدار مبدأ سيادة الدولة في الحفاظ على مصالحها. وتلك بدورها حالة سوف تتصاعد نماذجها في المرحلة المقبلة، ما يتطلب استعداداً لها، واحتواء آثارها.
عربياً توقع الضغوط مسألة حتمية، التعامل الاستباقي معها ليس ترفاً بل واجب. التمسك بسياسات سيادية تحقق المصالح العربية الجماعية بجانب المصالح الذاتية يبدو خياراً منطقياً. قمة الجزائر بشعارها لمّ الشمل وإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، يمكن أن تمثل خطوة لصياغة سياسة استباقية عربية لما هو متوقع من ضغوط. وثمة شروط، أو لنقل عوامل مساعدة يمكن أن تسهم في بلورة مواقف عربية جماعية، تؤكد بدورها وجود إرهاصات مشروع عربي يستهدف حماية المصالح العربية الجماعية في مواجهة المشروعات الإقليمية الثلاثة، الإسرائيلية والتركية والإيرانية، التي تُعد منفردة ومجتمعة بمثابة تحديات كبرى للدول العربية منفردة أو مجتمعة.
المواجهة المطلوبة لا تعني المقاطعة أو الانكفاء على الذات، وفي حدها الأدنى أن تُوظف العلاقات العربية مع أي من هذه الأطراف لترشيد مواقفها تجاه الحقوق والمصالح العربية التي لا خلاف عليها، والتي تدخل في صميم منظومة الأمن العربي بخطوطها العريضة؛ كوقف التدخل في شؤون الدول العربية، ومراعاة ما يدخل في صميم وجودها كالحق في المياه بدون ابتزاز من أحد، ومراعاة سيادتها وسيادة أراضيها، وممارسة ضغط سياسي ودعائي لسحب القوات التابعة للقوى الإقليمية من الأراضي العربية المحتلة في شمال سوريا وأجزاء من العراق وليبيا. أما الحد الأقصى فيبدو مؤجلاً إلى حين.