شهدت السنوات الأخيرة من حكم الرئيس حسني مبارك بروز شريحة جديدة من الطبقة الوسطى، قوامها فئتان رئيسيتان؛ الأولى شباب ذوو مهارات عملية التحقوا بطفرة القطاع الخاص، والثانية جيل من أبناء المعارين وكبار موظفي الدولة وأصحاب الأعمال الحرة الذين استثمروا في تعليم أبنائهم. تميزت هذه الطبقة الوسطى الجديدة بسمتها الاستهلاكية المحمودة، أي حرصها على الوجاهة الاجتماعية، المعيشة في كومباوند أو مدينة جديدة، امتلاك سيارات، وارتداء ملابس مستوردة؛ ذلك أن ثراءهم النسبي تواكب مع انفتاح اقتصادي، وأنهم جيل ولد في الحضر، ربما على عكس آبائهم.
بالتزامن، برزت قوى سياسية من تحالف الدين السياسي، والشِمال الثوري، مستخدمة خطاباً يرتكز على شعاري مكافحة التوريث، و«عدالة التوزيع»، وصولاً إلى ٢٥ يناير (كانون الثاني) وتنحي الرئيس مبارك.
والسؤال، إلى من انحاز أبناء الطبقة الوسطى الجديدة؟
من أعرفهم من هذه الطبقة، ولا أملك الحديث باسمهم جميعاً، انحازوا إلى شعارات «الثورة». لهذا تفسير اجتماعي وثقافي ونفسي. أما الاجتماعي فمظنة هذا الجيل أنه صعد بما يكفي لكي يطالب بنصيب من السلطة. (كان بدري عليك، عليك بدري). يحتاج المرء إلى زمن من التراكم الرأسمالي لكي يتحول إلى مركز قوة اقتصادية مستقلة قادرة على المطالبة بنفوذ سياسي.
والتفسير الثقافي مرتبط بسيطرة الفكرة الدينية عن تفاهة الحياة الدنيا، مع الفكرة اليسارية عن طهارة الفقر وخسة الثراء. لاحظ النعت المستخدم في مقولة ترددت بكثرة أيام الثورة: «قوم نحرق ها المدينة ونعمر واحدة أشرف».
يبقى التفسير النفسي الخفي، حيث كثير من أبناء هذه الطبقة أثرياء حديثاً، جمع هذا لهم متناقضين متعايشين داخلهم كزوجين لدودين. فمن جهة يشعرون بالاستحقاق، تغذيه ملاحظتهم للفارق في التعليم ومستوى المعيشة بينهم وبين الجموع من حولهم، وأحياناً بينهم وبين آبائهم. ومن جهة أخرى يعلمون أن فرصتهم الوحيدة للحصول على تفويض بالقيادة، كمسوغ للتأثير السياسي، لا تتأتى إلا بقيادة جماهير فقراء والتحدث باسمهم. وبالتالي تبني شعارات يسارية، أو دينية. في ظاهرة أسميها في الحالة المصرية «التسرسُج» السياسي، بالنظر إلى لغة خطابهم السائدة، وبالعربية الفصحى التَّهَمُّش، أو التَّرَيُّف الاختياري، تبعاً لفصيل اليسار أو الدين السياسي الذي ينتمي إليه الشخص. والمقصود هنا تماهي الفرد، لأغراض سياسية، مع أفكار طبقة لا يعيش معيشتها، ولا ينتمي فعلاً إليها. على أية حال، الأفكار التي تبنوها تقوض التراكم الرأسمالي، وبالتالي تقوض نموهم الشخصي ونمو طبقتهم التي كانت مولوداً ضعيفاً. كما أنها تتحرى النفوذ السياسي من خلال حشد الطبقات الاجتماعية الدنيا، أو من خلال التسلح الميليشياوي، ثم يغضبون إن استنصر معارضوهم، من أبناء طبقتهم، بمن يمكنه التفوق في المجالين.
مبكراً، أدركت جموع من المصريين أن الصندوقراطية «ballotocracy» التي باعها لنا الثوريون على أنها ديمقراطية ليست أكثر من سلعة مزيفة، ثمنها مبالغ فيه. غير المسيسين دينياً أو يسارياً من أبناء الطبقة الوسطى سارعوا إلى متجر السياسة مطالبين برد البضاعة قبل أن تمضي المهلة القانونية للإرجاع، ونضطر إلى أن نلبسها كما لبس الإيرانيون. لكن (عايزنا نرجع زي زمان، قول للزمان ارجع يا زمان). البضاعة المبيعة لا ترد، والخيار الوحيد هو الاستبدال، من المتجر نفسه.
وتمضي الدراما بهذه الطبقة.
وبعد إزاحة «الإخوان» عن الحكم أعلنت الجمهورية الناشئة، في أكثر من مناسبة، أنها لن تسمح بتكرار ما حدث. اتخذت موقفاً أمنياً حاسماً ضد تنظيم «الإخوان» وفروعه المسلحة، وضد السياسيين المنظمين الذين حامت حولهم أدنى شبهة تنسيق مع «الإخوان». هذا معروف للجميع.
لكنها أيضاً تعاملت بحذر مع تلك الطبقة بناءً على تحليلها لما حدث في يناير. أولاً، نظرت إلى زيادة النفوذ الاقتصادي لهذه الطبقة بوصفه عاملاً مزعزعاً لسيطرة الدولة، ومثيراً لنقمة شرائح أخرى في المجتمع. الترجمة، سبب من أسباب «الثورة». وثانياً، استبعدت الجمهورية الناشئة السياسات الاقتصادية التي تبنتها لجنة السياسات، على أساس أنها مرتبطة بنظام سابق لا ينبغي للجمهورية الجديدة أن تسلك مسلكه.
النتيجة أن هذه الطبقة خسرت رفاهيتها أكثر وأكثر، وتولدت منها طبقة جديدة هي التي سميتها الطبقة بنت الوسطى. طبقة لا تزال محتفظة بسيارة وربما ملابس سينييه متماسكة، وتسكن في تجمعات سكنية راقية، لكنها لا تملك أموالاً تمكنها من الحفاظ على نفس مستوى معيشتها اليومية، وتكافح لإبقاء أبنائها في مدارس أجنبية، أو مواصلة تعليمهم الجامعي بنفس المستوى. البضائع التي اعتادتها بناتها مصنفة الآن تحت بند «سلع الرفاهية» عالية الضرائب، أو محظورة الاستيراد. أما أولادها فسوف يقضون عمراً أطول في المواصلات.
الأزمات الاقتصادية ليست نهاية العالم. والمجتمع الصلب قادر على تلقي الصدمة بكبرياء والمضي قدماً. ومصر، كما أثبتت السنوات الماضية، مجتمع صلب متماسك. لكن المهم أن نتعلم الدرس في الاقتصاد والسياسة، وكفانا تدويراً في أفكارنا الاشتراكية. من المهم أن نقول هذا لعله يصل إلى طرفي الحوار الوطني كليهما.
اقتصاد معناه إدارة رأسمال. الفارق الوحيد يكمن في السؤال: من يديره؟ هل يديره المستثمرون الذين يملكونه، ويحرصون عليه، وأثبتوا براعتهم في إدارته وإلا عوقبوا على الفشل بفقده؟ أم يديره موظفون حكوميون لا تتوافر فيهم أي من الصفات المذكورة؟ المقولة العبقرية السابقة ليست من بنات أفكاري - للأسف - إنما لمارجريت ثاتشر ببعض التصرف والإسهاب.
عسى الطبقة بنت الوسطى تستفيد من تجربتها، وتعرف أن أفكار الاقتصاد ليست ثمرة بديهية، ولا تنال قوتها من الاستحسان الخطابي، وأن المتداول منها، والتفاعل الناتج عنه، يؤثران في تفاصيل الحياة اليومية. بعض التواضع في ميدان تبادل الأفكار لا يضر. النماذج الاقتصادية الناجحة تدعمها الرياضيات المتقدمة، والتجربة، معاً.