الصين وأميركا... مساكنة اضطرارية أم أكثر؟

منذ 1 سنة 197

رقصة التانغو الدبلوماسية في فيينا، الأسبوع الفائت، بين مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان ووزير الخارجية الصيني وانغ يي، تعدّ أولى خطوات الخروج عن الخطاب العدائي الذي ميّز السجالات الأمريكية - الصينية خلال السنوات الماضية، وبداية اتصال مباشر، يحمل وعداً بخلق آلية ثابتة لإدارة أكثر علاقة سياسية محورية للاستقرار العالمي.

اثنتا عشرة ساعة من الحوارات تعمّد فيها الرجلان خلع القفازات وطرح كل القضايا الشائكة بين الدولتين العظميين، من تايوان إلى أوكرانيا، مروراً بتصورات كل منهما عن الآخر وطموحاته المفترضة والإستراتيجيات التي يعتمدها لأجل ذلك، كانت كافية لأن تتراجع نغمة الحرب الباردة الجديدة التي شاعت حول تعريف العلاقات الصينية - الأميركية.

مما لا شك فيه، أن نجاح لقاء فيينا في التأسيس لمرحلة جديدة في العلاقات بين الدولتين، سيمثل تحولاً في الموقف الأميركي من الصين وصعودها على المسرح الدولي، بعد أن بالغت إدارة بايدن في محاولات التحشييد الدولي ضد بكين، وفشلت في تأطير التنافس معها في إطار آيديولوجي عنوانه «الصراع بين الديموقراطية والنظام الشمولي».

فوجئت واشنطن أن دول العالم، من الشرق الأوسط، إلى آسيا، مروراً بإفريقيا ووصولاً إلى قلب أوروبا، تتجنب بوعي حاد مآزق المنافسات السابقة والدراما الكونية التي نتجت من المواجهة بين أميركا والاتحاد السوفيتي. فالسمة الحاسمة لشكل العلاقات الدولية راهناً هي الاستثمار البراغماتي الفعال في تطوير العلاقة مع الصين وأميركا معاً، وتجنب الوقوع في فخ الاختيار الآيديولوجي بينهما على غرار ما كانته العلاقات الدولية إبان الحرب الباردة. الواضح أن جلّ هذه الدول تتعامل بمهارة مع إدارة مصالحها الاقتصادية وسياسات التحوط تجاه المخاطر المحتملة الاقتصادية والبيئية والتكنولوجية، ووفق ديناميكيات معقدة، لم تترك لواشنطن الكثير من الهوامش للاستقطاب السياسي الحاد.

ولعل أبرز من عبّر بوضوح، من بين حلفاء واشنطن، عن هذه السمة الآخذة في التبلور في السياسة الدولية، هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي دعا إلى «الاستقلال الاستراتيجي» لأوروبا بعد زيارة إلى الصين رفقة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين. قال ماكرون «على أوروبا ألا تتبع أمريكا أو الصين بما يخص تايوان، بل يجب أن تعمل على اتباع استراتيجية مستقلة في هذا الصدد... إن تصاعد التوتر في مضيق تايوان ليس في مصلحة أوروبا»، مضيفاً أن مشاركة أوروبا «في اضطراب العالم وأزماته، التي ليست أزماتنا» سيكون فخاً! كما أعرب عن مخاوفه بشأن اعتماد أوروبا المتزايد على الأسلحة الأمريكية والطاقة والدولار، مشدداً على الحاجة الملحة إلى تعزيز الصناعات الدفاعية الأوروبية وتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي خارج الحدود الإقليمية.

تزامنت تصريحات ماكرون مع سعي صيني حثيث عبّرت عنه أول زيارة أوروبية من نوعها لوزير خارجية الصين، سعى في خلالها إلى إقناع القارة بالابتعاد عن أميركا في مشروع المواجهة الذي تقوده واشنطن ضد الصين. كما تزامنت المواقف الفرنسية غير المسبوقة منذ الحقبة الديغولية الممتدة بين أواخر خمسينات وأواخر ستينات القرن الماضي، مع إعادة تقييم بالغة الصعوبة يجريها الاتحاد الأوروبي لكيفية تطوير سياسته الحالية تجاه الصين، والتي يختصرها رئيس السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بانها ثلاثية الأبعاد. فأوروبا تنظر إلى الصين بطريقة معقدة كخصم، وشريك، ومنافس، زادها تعقيداً النزاع الأوكراني - الروسي وموقف الصين الأقرب إلى موسكو منه إلى كييف.

وفي حين تسعى أوروبا إلى تطوير استراتيجية «تقليص المخاطر» عبر تقليل الاعتماد المفرط على الصين، كي لا تتكرر تبعات الاعتماد الأوروبي على غاز روسيا، فهي تدرك أيضاً حجم المصالح الاقتصادية بين دول القارة والصين، وتتخوف من فائض الإجراءات الحمائية الأميركية وسياسات الدعم التي تهدد الشركات والصناعات الأوروبية التي تعاني أصلاً من أثمان الحرب والآثار المستمرة لجائحة كورونا. لا تسمح كل هذه التعقيدات بخيارات أوروبية سهلة بين الصين وأميركا؛ وهو ما يشكل فرصة للصين لأنه يحرم أميركا من انحياز أوروبي تلقائي وسهل نحوها كما كان الحال خلال الحرب الباردة يوم كانت المصالح الاقتصادية والقيم الغربية متناغمة وواضحة.

كما أوروبا، تتميز مواقف دول الجنوب عامةً، بوعي مماثل لضرورة الحفاظ على أعلى درجات المرونة الاستراتيجية بين الصين وأميركا. ولعل أكثر من يعبّر عن هذا النهج، ويضعف الموقف الأمريكي، هو موقف الهند كأكبر ديموقراطية في العالم، لا سيما في جزئية إحجامها عن إدانة النزاع الروسي - الأوكراني، ونجاحها في تحويل النزاع إلى فرصة اقتصادية لها من خلال جعل روسيا أكبر مورّد إلى الهند للنفط الخام وبأسعار مخفضة. إلى ذلك، نجحت الهند في تظهير نفسها كوسيط محايد في الأزمة الأوكرانية، على الرغم من فشل جهودها في اجتماع وزراء خارجية مجموعة العشرين في مارس (آذار) 2023 في نيودلهي، في صياغة إجماع بين الدول لإدانة الأزمة الأوكرانية بسبب الخلافات المستمرة بين القوى العظمى. وبدا أداؤها الديبلوماسي معنياً بانتزاع دور للهند في السياسة الدولية أكثر من كونه متحمساً للاصطفاف في مشهد جيوسياسي معقد.

إلى ذلك، تقدم دول جنوب شرق آسيا أداءً سياسياً بالغ الثقة في إدارة علاقة متوازنة مع واقع التنافس المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين، إما عبر العلاقات الثنائية بين كل دول من جهة وبين الصين وأميركا من جهة ثانية، وإما عبر تطوير مؤسسات فاعلة متعددة الأطراف، مثل رابطة دول جنوب شرق آسيا، مستفيدة من مؤشرات اقتصادية ومالية جذابة في حقبة يتهددها الركود على مستوى العالم.

لم يختلف رد فعل أغلبية الدول الإفريقية عن ردود الفعل التي رسمت تموضعات أوروبا ودول الشرق الأوسط والهند، لا سيما أنها أقرب من غيرها إلى الطُّعون التي تقدمها روسيا والصين بحق عدالة النظام الدولي ودعوتيهما إلى إعادة هيكلة مؤسساته لجعله أكثر إنصافاً وشمولية. فليس أكثر من أفريقيا من تحمل تبعات الخلل في ميزان العدالة الدولية والحرمان من سياسات التنمية الجادة والمستدامة، وليس أكثر منها من دفع ثمن الإرث الكولونيالي للغرب.

وما يعزز هذا الاتجاه في السياسات الدولية، واستسهال الدول المعنية ألا تختار بين واشنطن وبكين، أن الغرب يعاني أزمة مصداقية هائلة تتصل بعدالة القواعد التي وضعها للنظام العالمي، كما بتدني مستوى المسؤولية التي يتعامل بها مع الأزمات المالية والاقتصادية والبيئية وبقية سلة المخاطر التي تواجه البشرية.

فمن المخزي حقاً، على سبيل المثال لا الحصر، أدلجة قضايا المناخ اليوم وتوظيفها سياسياً، في لعبة التنافس الاقتصادي مع الصين، وتحشيد الدول ضد الصين ولو على حساب المصالح الخاصة لهذه الدول نفسها، من دون حد أدنى من الاعتراف بالمسؤوليات التاريخية للغرب الصناعي عما آلت إليه ظروف البيئة اليوم، وتحمُّل جزء عادل من أكلاف معالجتها.

كما لا يكفي التذرع «بضرورة التزام القانون الدولي» من دون وعي تاريخي لأولوية معالجة ذيول الماضي الاستعماري للغرب الليبرالي، والسعي الجاد لبناء تحالفات وشراكات أكثر عدلاً وقوة على الصعيد العالمي، والاعتراف بالديناميات المتغيرة للقوة واحترامها.

بدء الحوار الصيني - الأمريكي خبر سار لكل من يراهن على أن الاستقرار في السياسيات الدولية مقدمة ضرورية لتعميم الازدهار والرفاه. وفهم ديناميات العلاقة الثلاثية بين أميركا والصين وبقية العالم، خارج أعراف وقواعد واستقطابات الحرب الباردة، هو نذير ولادة نهج جديد في العلاقات الدولية قوامه العدل والتنوع والترابط.