"الشعبنة" عرف التصافي والمتعة قبل محظورات الصيام

منذ 8 أشهر 102

تسعة عقود مضت وما زالت صامدة أمام التغيرات الاجتماعية والتقنية، فلم تهزمها كثرة لقاءات المقاهي واستمرار التجمعات الدورية والتواصل عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لتظل "الشعبنة" محتفظة بطابعها السنوي الممزوج بعمق الماضي وروح الحاضر.

"الشعبنة" موروث قديم، إذ درج أهل الحجاز في مدن غرب السعودية على أداء طقوس بعد منتصف شهر شعبان لتوديع الأكل والشرب وبعض الممارسات التي تقام أثناء النهار، تحت مسمى (يا نفس ما تشتهي)، فهي ظاهرة اجتماعية أوجدها الناس من أجل التواصل الاجتماعي بينهم.

وتطورت طرق الاحتفاء بـ"الشعبنة"، فكانت الأسر تخرج للمتنزهات البرية والبساتين، أما اليوم فيحتفى بها في البيوت الكبيرة أو الاستراحات أو قاعات الاحتفال، وهي كما أنها عادة سعودية فإنها كذلك ذات امتداد خارج الحدود، إذ لفكرتها نظائر في مناطق عربية عدة.

إحياء العادات الموروثة ضرورة

وترى الاستشارية النفسية والاجتماعية دعاء زهران أنه لا بد من إحياء العادات الاجتماعية الموروثة لما لها من أثر مجتمعي مختلف، قائلة خلال حديثها لـ"اندبندنت عربية"، "على رغم تغيرات العصر والثقافات الدخيلة فإن هناك عادات مجتمعية متوارثة جميلة نسعى بأن نحييها ونورثها للأجيال القادمة لما لها من أثر مجتمعي مختلف ومنها الشعبنة".

وأضافت "تعارف المجتمع السعودي على ما يسمى (الشعبنة) وهي مأخوذة من شهر شعبان، التي يجتمع فيها الأصحاب والزملاء والأقارب بعادات وأساليب خاصة استعداداً لشهر الصوم والعبادة، وأصبح كثر بخاصة من مجتمع السيدات ينتظرونها من السنة للأخرى للاحتفال والتجهيز".

وبينت زهران أن هذه العادة باتت كأساسات مجتمعية لا بد من المحافظة عليها من دون مبالغة أو إسراف، لتستوفي الهدف الأساس من "الشعبنة" وهو التواصل والتآلف ونشر السعادة والمحبة.

"الشعبنة" تكرس مفهوم الترابط

وأكد أشخاص من جدة ومكة المكرمة ممن اعتادوا ممارسة هذه الطقوس خلال حديثهم لـ"اندبندنت عربية" أن "الشعبنة" عادة اجتماعية يحييها سكان المنطقة الغربية لاستقبال الشهر الكريم لتكرس مفهوم الترابط.

وروت فوزية أحمد البالغة من العمر 85 سنة أنها نشأت منذ الصغر على إحياء هذه العادة كل عام، وتحرص على تعويد أحفادها على ذلك، مضيفة "هناك اختلاف كبير بين (الشعبنة) في الماضي والحاضر من جهة المكان ونوعية الطعام المقدم في الاحتفال، فكان الأكل المقدم في هذا اليوم حين تجتمع العائلة بكل أفرادها والأقرباء من الأكلات الشعبية التي تحضر في المنزل، أما الآن فأصبح يقدم الرز واللحم أو أصناف متنوعة من البوفيهات المختلفة".

وبين عادل سليمان البالغ من العمر 75 سنة أن عادة "الشعبنة" ما زالت تحتفظ بنكهتها الخاصة ومن الصعب اندثارها، كونه يوم فرحة تقدم فيه التهنئة للأقارب والأهل لمناسبة قرب شهر رمضان وتوديع المأكولات غير التي بشهر الصوم بحكم العادة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فيما اعتادت خيرية سالم البالغة من العمر 77 سنة على استقبال ضيوفها كل عام في منزلها الكبير، بحجة الحفاظ عليها وعدم اندثارها، قائلة "لا يمكن أن يمر عام من دون (شعبنة)، فرُبيت وربيت أبنائي وأحفادي عليها، فهي عادة تجمع فيها الأحباب وتتصافى فيها النفوس قبل دخول رمضان".

حياة أهل جدة التاريخية قديماً

وبين المؤرخ والمهتم بتاريخ جدة خالد أبو الجدائل أن "الشعبنة" عادة اجتماعية اعتاد على إحيائها أهالي جدة منذ القدم، موضحاً خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن شهر شعبان يمر بثلاث فترات زمنية لدى أهل جدة التاريخية قديماً.

وقال "الفترة الأولى من شهر شعبان (عودة أهالي الركب الجداوي) وتبدأ طلائع عودتهم من زيارتهم لمسجد رسول الله من المدينة المنورة في الأسبوع الأول من الشهر تقريباً في رحلة تستغرق قرابة الشهر بين ذهاب وإقامة وعودة، محملين بأغلى أنواع التمور وغيرها لمحبيهم تعبيراً عن المودة والمحبة، أما الفترة الثانية (الاستعداد لشهر رمضان والعيد) حيث يبدأ أهالي جدة بالاستعداد للشهر الفضيل ويحرصون فيه على التمسك بعاداته وتقاليده، بدءاً بشراء مستلزماته من مأكل ومشرب وهناك من يسابق الزمن ويحيك ثيابه وثياب أبنائه وأهل بيته".

Inkedff2fbc2c-f54c-4735-b82a-a314bec51789_LI.jpg

وزاد "أما المرحلة الثالثة (الشعبنة)، وهي إحدى العادات التي توارثتها عديد من الشعوب العربية ولها تسمياتها الخاصة لديهم المستمدة من بيئتهم الاجتماعية، ويهتم بعض أهالي جدة التاريخية بهذه العادة متوارثة من الأجيال السابقة، التي لا أصل لها في الشرع الإسلامي ويعتبرها بعض طلاب العلم بدعة وينكرون القيام بها، خصوصاً إذا خرجت عن أسلوب الحياة المألوف وأقيم فيها ما يخالف الشرع".

صفاء للنفوس

وأوضح أبو الجدائل أن عادة "الشعبنة" تكون في الأيام الأخيرة من شهر شعبان حين يقيم بعض أهالي جدة القيلات (جمعات وقت الظهيرة) أو السمرات (ليالي السهر) في بيوتهم داخل جدة التاريخية، فكانت تخص أفراد الأسرة والأرحام والأقارب المقربين، أو في إحدى ضواحي جدة التي أصبحت اليوم أحياء كحي الكندرة على سبيل المثال التي كانت بها كثير من المربعات (الاستراحات) التي تمتلكها بعض الأسر، وأيضاً في بعض الضواحي الأخرى مثل العمارية والبغدادية والنزلة وغيرها، حيث يطيب السمر والسهر بعيداً من مدينة جدة التاريخية وضجيجها مع اعتدال الجو مساء في تلك الضواحي نظراً إلى بعدها عن العمران.

وأضاف "تجد كل (بشكة) جماعة يشتركون في إقامة مآدب الأكل التي في الغالب يتولى إعدادها أحد هواة الطبخ المتقنين فن طهي المأكولات الحجازية من المشعبنين، ويغلب على حفلات (الشعبنة) إقامة مجالس الصلح وصفاء النفوس بين الأهل أو الأصدقاء الذين حدث بينهم جفاء أو مشكلة أدت إلى القطيعة، فيبادر أهل الخير منهم إلى الإصلاح بينهم قبل دخول شهر رمضان، وتتخلل سهراتهم وأسمارهم الأحاديث الودية وبعض جلسات الغناء الحجازي الأصيل من صهبة ودانات وغناء بحري ولعب مزمار، ومن ثم يتجه كل شخص إلى بيته استعداداً في ما تبقى من الشهر لاستقبال رمضان".