الشرع والعقبة

منذ 5 أيام 23

كل ما يصل إلينا من سوريا مطمئن؛ الحكومة المؤقتة استقرت. عمدة العاصمة بدأ عمله. عاد معظم الناس لأعمالهم، والطلبة لمقاعدهم الدراسية في المدارس والجامعات. حركة البيع والشراء لا بأس بها رغم الحاجة لسد الاحتياج في سلع مهمة مثل الدقيق والحليب. سياسياً، أحمد الشرع، قائد العمليات العسكرية وصاحب القرار، سجّل مع قناة «العربية» تصريحات تشبه الأحلام، لا تعلم هل تصدقها، أو تسمعها وتستمتع بها؛ فهو يدعو الأكراد للاندماج في الدولة، واستبعد بعيداً جداً أي احتكاك مع إسرائيل رغم استفزازات الأخيرة في الجولان، ووعد بمضاعفة مرتبات الموظفين 400 في المائة والنظر في إجبارية التجنيد، ودعا لوحدة سوريا لجميع الطوائف والأعراق، ولديه ملف لخطط تنموية تغير واقع البلد المنكوب منذ عقود.

هذه الثقة التي تحدث بها الشرع جاءت بعد اجتماع مهم في العقبة الأردنية، جمع الدول العربية الفاعلة مع الولايات المتحدة وتركيا. الاجتماع سيذكره السوريون على أنه صمام الأمان الذي من خلاله سيتم تشذيب أي نيات خارجة عن خريطة الطريق التي اتفق عليها المجتمعون. كل مخاوف السوريين، وكذلك مخاوف الدول المجاورة لسوريا، أخذها الاجتماع باهتمام عالٍ، بخاصة مع التنسيق السعودي - التركي - الأميركي.

استقرار الكرد في الشمال والشمال الشرقي مهم لهم ولتركيا التي قالتها صراحة إنها ليس لها أطماع في سوريا. وهذا تصريح مهم مُلزم للجارة التي لا تزال ترى في «قوات سوريا الديمقراطية» خطراً قائماً. الأكراد أنفسهم لا يريدون النزاع ولا الاشتباك، ولا أن تكون منطقتهم مهددة، مثلهم مثل بقية السوريين ينشدون الحياة الهادئة؛ فقد أنهكتهم النزاعات والحروب وأصوات النيران والمدافع. الرابط الوحيد بينهم وبين تركيا، والذي يستطيع ضمان استقرار هذه الجغرافيا للطرفين، هو الولايات المتحدة الأميركية. واشنطن تملك أن تطمئن الأكراد والأتراك بنيات بعضهم الحسنة تجاه بعض، وأن تحافظ على الحزام المحاذي منزوع السلاح، وإلا فستبقى هذه المنطقة رخوة وقابلة للاشتعال في أي وقت. أما مستقبل الأكراد في أرضهم فهو قرار سوري صرف، سواء اتفقوا مع حكومة دمشق على حكم ذاتي أو انخراط مع بقية الأطياف.

من جهة أخرى، المتخوفون من سوريا يحكمها أحمد الشرع ورفاقه، بالنظر إلى تاريخهم المسلح وآيديولوجيتهم المتطرفة، عليهم أن يتذكروا أن الواقع فاجأ الجميع، والقبول به أسهل من مقاومته، ما دامت كل مبادرات الرجل إيجابية وحديثة توافق ما يتمناه السوريون، فهو يتحدث بلسان أحلامهم وأمانيهم، ومن الأفضل أن يتركوه يعمل، ولينظروا لهذه المرحلة مثلما حصل سابقاً مع تجربة جماعة الإخوان المسلمين في مصر وتونس، فالفرص غالباً تأتي مرة واحدة. أيضاً الحقيقة أن العمليات العسكرية التي بدأها الشرع قبل أسبوعين وانتهت سريعاً بسقوط الأسد وهروبه، ما كان لها أن تنجح لولا الضوء الأخضر الأميركي، والدعم التركي، والموقف العربي الذي رأى فيه فرصة للاستقرار، فأحجم عن الحكم عليه من خلال ماضيه. الكل اليوم داعم للشرع من أجل سوريا لا من أجله. لكن التخوف أمر مشروع، فالكثير من السوريين يتساءلون اليوم: من سيحكم ويتحكم بالقوانين المجتمعية؟ هل هو أبو محمد الجولاني أو أحمد الشرع؟ حقوق المرأة، والأنشطة الفنية والرياضية، وحقوق الأقليات، والحريات الدينية. للأسف، لا أحد يملك جواباً أكيداً سوى ما نسمعه من الشرع نفسه، وهو في بداية مرحلة جديدة، والبدايات دائماً جميلة، لكن العبرة بالخواتيم. إذا قلنا إن سوء الظن من الفطنة، فإن الشرع ما دام بحاجة للدعم الداخلي والدعم الإقليمي فلن يحيد عن وعوده. وإن كان بعض الظن إثماً، فإن الشرع يملك اليد العليا التي تحمل التغيير الذي يطمح إليه السوريون، ومن مصلحتهم أن يكمل عملية التحرير والتغيير التي بدأها. وأيضاً ليكون له موقع في المستقبل السوري، عليه أن يترك السلاح للجيش، ويتخذ مقعده في الصالون السياسي بالحكمة نفسها التي يتحدث بها ويخاطب بها العالم. ما زالت سوريا تحتاج أن تكسب ثقة المجتمع الدولي، وبالتحديد ثقة الولايات المتحدة والأوروبيين الذين يمسكون عصا العقوبات الاقتصادية. في حال سارت الأمور بالسلاسة التي نراها اليوم، فلن تتردد هذه الدول في رفع العقوبات أو تعليقها، وستقدم الدول العربية، بخاصة الخليجية، الدعم الذي تقدمه دائماً في وقفاتها التاريخية مع العرب. كل هذا الرجاء سيتحدد مصيره خلال الأشهر القليلة المقبلة.