السياسة وعقل الدول

منذ 5 ساعة 13

حلقات الزمن، تعجّ بالبحار والأنهار والبحيرات والأعاصير، وغيرها مما تتلوى فيها الأحداث والأزمات الكبيرة والصغيرة. الحرب هي المطرقة النارية الضخمة، التي تهوي بها يد القوة على خصم قريب أو بعيد. في مطلع ستينات القرن الماضي، حبست الدنيا أنفاسها عندما اكتشفت طائرات تجسس أميركية، وجود أسلحة نووية سوفياتية، على الأراضي الكوبية. الرئيس الأميركي الشاب جون كيندي، رفع مطرقة التهديد النارية، وعبأ قوته لمواجهة ما قام به الزعيم السوفياتي المندفع نيكيتا خروتشوف. تدحرج الموقف بسرعة نحو صِدامٍ آتٍ بين القوتين النوويتين العظميين على وجه الأرض. وزير الدفاع الأميركي وقتها روبرت ماكنمارا، مال إلى ضفة الدبلوماسية الخشنة، في حين اندفع الرئيس الشاب كيندي، إلى حلبة المنازلة الصفرية مع غريمه المزاجي السوفياتي نيكيتا خروتشوف. تفكيك الأسلحة النووية السوفياتية، التي نُصبت على مرمى النظر من الساحل الأميركي، كان مطلب الرئيس كيندي غير القابل للنقاش. تراجع في النهاية خروتشوف، ووافق على الطلب الأميركي، بعدما قام وزير الدفاع روبرت ماكنمارا، بتقديم مشروع سياسي للتسوية، يقوم على ترتيبات عسكرية في المنطقة الساخنة على الحدود السوفياتية؛ لحفظ ماء هيبة وجه وقبضة خروتشوف العنترية. تنفس العالم نسمة سلام استردها، بفعل الخيارات السياسية، من قبضة انفعالات القوة الكبرى الرهيبة.

الخيارات السياسية في ساعات الطواف حول حافة الهوية القاتلة، تتحرك على عجلات البدائل، مُرّها وحلوها وما بينهما. حماية الأمن الوطني للبلاد، هي الهدف الأساسي من بناء القوة في كل كيان وطني. الدفاع عن المصالح الاقتصادية للدولة، لا يغيب عن حسابات السياسيين، لكن بما لا يؤدي إلى تكلفة بشرية ومالية، تفوق حجم ما ينفق على حماية مصالح الأمة. تلك هي أعمدة سياسة توظيف القوة المسلحة. وزير الخارجية مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق هنري كسنجر، تبنى ذات المعادلات السياسية التي سبقه إليها، وزير الدفاع في عهد الرئيس كيندي، روبرت ماكنمارا. بعد حرب دموية طويلة، خاضتها الولايات المتحدة الأميركية في فيتنام، ضد مقاتلين وطنيين شيوعيين فيتناميين، مدعومين من الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية. كانت تلك المواجهة، حرباً عالمية ساخنة، في زمن الصراع البارد بين القوى الكبرى. هنري كسنجر قفز إلى خندق النار الفيتنامي، من زاويته الصينية، وأقنع رئيسه ريتشارد نيكسون، بزيارة بكين واللقاء بالزعيم العجوز ماو تسي تونغ. الأزمات الكبيرة تنبت في حقول الرؤوس المالكة قوة السلاح والمال والقرار، وإبطال مفاعيلها يبدأ بمعرفة كيمياء ما نبت في الرؤوس الفاعلة. إدارة الأزمات هي معارك لا تترك للعسكريين وحدهم، بخاصة عندما يكونون صغاراً نزقين قفزوا إلى السلطة في ظلام ليل صامت.

في بلدان العالم الثالث التي نالت استقلالها بعد قرون من الاستعمار. استوطن الجهل والعوز وغابت قوة الهويات الوطنية، وكانت الجماعات العرقية والطائفية هي الحاضر الأقوى، ولم تنبعث المجتمعات المدنية، وصارت الجيوش هي القوة المنظمة الوحيدة في البلدان الحديثة الاستقلال. صارت سلطة الحكم، هي المعترك المحرك لمن يمتلك السلاح. شهدت القارة الأفريقية الانقلابات العسكرية الأكثر في العالم، وترسخت كيانات الاستبداد والتخلف والمعاناة المزمنة. غابت مؤسسة الدولة، ونسيج المجتمع المدني الفاعل في جوارحها. بعد سنوات من مغادرة المستعمر أراضي البلدان العربية، شهد بعضها جهوداً صادقة لإقامة أسس الدولة، وسخّر قادتها ما تيسر لهم من إمكانيات للتعليم والصحة والبنية التحتية. كرَّسوا سيادة القانون والمساواة بين المواطنين، وتفادوا الصدام مع القريب والبعيد. بلا شك كانت إدارة تكوين جديد، من دون خبرة سابقة، تحتاج إلى قوة العقل، وتوظيف الفراسة المتوارثة، والتواصل مع الشيوخ والأعيان، وفتح أبواب الأمل والتحفيز للشباب. تحقق قدر واعد من السلام الاجتماعي، وتحركت إرادة البناء والتنمية. ضربات ثقيلة هوت على بعض الكيانات الوليدة. ضباط صغار أو متوسطو الرتب، انتزعوا السلطة بانقلابات عسكرية، وساد عنف القوة، وزغردت الشعارات والأناشيد في الآذان، وتحكمت العواطف والأحلام في خلايا الوجدان، ونمت العداوات بين الدول التي تغيرت عناوينها، وارتبكت الأهداف.

عقود اهتزت فيها أركان البنيان السياسي والاقتصادي والاجتماعي. تراكمت الأزمات، من دون أن يفيق من يجلسون فوق كراسي القرار، بخطورة الجرف الهاري الذي يندفعون له، وتلاحقت الهزائم وتخلخل البنيان، وصارت الأزمات هي الكائنات الوحيدة التي تنمو من دون توقف. أميركا اللاتينية، أصاب بعضها المس نفسه من الانقلابات العسكرية، لكن ناقوس اليقظة كان أعلى، وبدأت مرحلة ضوء الواقعية، وتراجعت قبضات الديكتاتوريات والعسف الدموي.

الحياة مسيرة طويلة شاقة، بين شقوق الامتحانات التي لا تتوقف، بما فيها من جهد صراع وانتصارات وانكسارات. القادة العقلاء الذين يحسبون قراراتهم، ويوازنون بين المصالح والتكلفة، هم من يشعلون الأضواء في مسارات النهوض والتقدم. قال أبو الأسود الدؤلي:

لا يصلحُ الناسُ فوضى لا سراةَ لهم

ولا سراةَ إذا جُهّالُهم سادوا

والبيتُ لا يُبنى إلا لهُ عمدُ

ولا عِمادَ إذا لم ترسَ أوتادُ

فإن تجمَّع أوتادُ وأعمدةُ

لمعشرٍ بلغوا الأمر الذي كادوا