`يتعاظم الدور الذي تؤديه وسائط التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا) في المجال الإعلامي يوماً بعد يوم، وتزداد المساحات التي تحتلها في ميدان صناعة المحتوى، كما يتضاعف جمهورها باطراد، لكنّ هذا الازدهار الكبير لم تُواكبه جهود مُنظّمة لإحداث درجة من الضبط الذاتي النابع من الالتزامات الأخلاقية المُفترضة للقائمين على تشغيل هذه المنصات أو مستخدميها.
وربما يجد البعض أن الحديث عن الأخلاق فيما يتعلق بالأمور المهنية الاحترافية أمر غير عملي؛ لكنّ الواقع يؤكد أن الالتزامات الأخلاقية ظلّت حاكماً رئيسياً لنجاعة الأداء المهني، وشرطاً واجباً لضمان حماية مصالح الأطراف المتصلة به؛ لذلك ظهرت مواثيق الشرف الصحافي في عالم «الإعلام التقليدي»، كما ظهرت أدلة العمل التحريري، إضافة إلى ميراث كبير من آليات التنظيم الذاتي للعمل الإعلامي، وهي آليات استهدفت جميعها تعزيز الممارسة الأخلاقية المهنية، ومحاولة الحد إلى أقصى درجة مُمكنة من الأضرار غير الموضوعية التي يمكن أن تُسببها الممارسات الإعلامية لبعض الأطراف.
ويمكن القول إن ميراثاً كبيراً من أدبيات الضبط والتنظيم ومواثيق الشرف، التي استهدفت تعزيز النزعة الأخلاقية في الممارسة الإعلامية، ترك أثراً يُمكن قياسه على جودة المواد الإعلامية التي تم بثها للجمهور على مدى قرن من الزمان عبر الوسائط «التقليدية»، من دون أن يعني ذلك أن تلك الممارسات لم تحمل قدراً من الإساءات والحِدّة والإضرار بمصالح الأطراف المعْنية في نُظم إعلامية مختلفة.
وفي الوقت الذي كانت الأكاديميات ومراكز التفكير والمؤسسات الإعلامية ذاتها تبذل جهوداً لتعزيز النزعة الأخلاقية في الأداء الإعلامي، تغيّر المشهد الاتصالي العالمي قُرب نهايات القرن الفائت تغيُّراً جوهريّاً. وكان الملمح الأساسي في هذا التغيُّر يتعلّق بصعود دور وسائط التواصل الاجتماعي وهيمنتها على قدر كبير من اهتمامات الجمهور، ونهوضها بأدوار إخبارية رئيسية، خصوصاً بين الشباب واليافعين.
وبموازاة هذا الصعود لتلك الوسائط، ظهرت تحديات كبيرة. وكان أحد أهم تلك التحديات ما يتعلق بمفهوم الصحافي نفسه وقدرتنا على تعريفه، إضافة بالطبع إلى فكرة سقوط حارس البوابة، وهي الفكرة التي كانت محوراً أساسياً اعتمدت عليه وسائل الإعلام «التقليدية» في تعزيز النزعة الأخلاقية في الأداء الإعلامي.
ورغم الاختلاف بين المُنظّرين والفلاسفة على تعريف الأخلاق ومدى ارتباطها بالمجال الإعلامي، فإن الأكاديميات والمؤسسات الإعلامية المعْنيّة بحُرية الصحافة وتطورها لم تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا التحدي المُتمثل في صعوبة تشخيص المنحى الأخلاقي.
واستناداً إلى جهود متراكمة في هذا الصدد، بدا أن هناك قدراً من التوافق حول معنى الدور الأخلاقي للإعلام، الذي يمكن أن يتلخّص في قُدرة الإعلام والإعلاميين على انتقاء الأخبار والمعلومات والقصص التي تقع ضمن إطار اهتمامات الجمهور المُشخّص سلفاً، واختيار الأطراف الفاعلة في تلك الموضوعات بعناية، وإيراد حُجج تلك الأطراف بعدالة، ومنحها الحقوق المتكافئة للدفاع عن وجهات نظرها، من دون أي توجيه أو محاولة لحرف اتجاهات الجمهور. وبينما تجري تلك العملية بأقصى درجة من درجات مراعاة التوازن، فإنه يجب حماية الأطراف من الاستهداف غير الموضوعي، واعتبار الحق الشخصي، وتجنُّب انتهاك الخصوصية، فضلاً عن الالتزام بمقتضيات النزاهة الشخصية للإعلامي، وإيلاء الاهتمام بالمسؤولية الاجتماعية.
لقد ظل المبحث الأخلاقي مهماً وحيوياً للممارسة الإعلامية الرشيدة على مدى عقود طويلة، لكن «السوشيال ميديا» لم تضع بصمتها في هذا المجال بعدُ.
سيُدافع مالكو الشركات المُشغِّلة لتلك الوسائط عن أنفسهم بالقول إنهم يضعون شروطاً للاستخدام، ويُوظِّفون مجالس للثقة والأمان، ويُخضِعون المحتوى للتقييم، ويُحاربون التفاعلات الضارة، ويُقصون المستخدمين المتجاوزين، لكنّ هذا الأمر لا ينطلق من تشخيص مُتّفق عليه بينهم للمحتوى الضار وغير الأخلاقي، ولا يشارك جمهور المستخدمين في تطويره، ولا تنهض جماعات بينهم بأدوار مُقننة بهدف تحسين المحتوى وضبط التفاعلات.
والشاهد أنه لا يمكن لأي صناعة أن تزدهر، وأي مهنة أن تتطور، من دون أن تمتلك آليات للضبط والمراجعة والمحاسبة والمساءلة الذاتية. فعبر مثل تلك الآليات يمكن للصناعة أن تكتشف الأخطاء، وأن تعين مواطن الخلل، وأن تقوم بما يتوجب فعله لمعالجة المشكلات وتحجيم أضرارها.
وبموازاة تلك الفوائد الكبيرة، ثمة فائدة لا تقل أهمية؛ إذ يشعر الجمهور الذي يتلقى منتجات هذه الصناعة بأن هناك من يراعي مصالحه، ويحترم حقوقه، ويعمل على صيانتها.
لهذا السبب نشأ مفهوم «أخلاقيات الإعلام» وتطوّر، وبات عنصراً حيوياً من عناصر بناء أي نظام إعلامي رشيد، وهو أمر لم تعرفه وسائط «التواصل الاجتماعي» في أوج ازدهارها وهيمنتها على المشهد الاتصالي العالمي.