اقترن المشروع التنموي الاستراتيجي الجبار بالمملكة 2030 والذي تبدو له وحداتٌ جديدةٌ وأغصان كلّ أسبوعٍ تقريباً منذ أكثر من خمس سنوات، بأربعة فروعٍ أخرى: العمل على ضرب التطرف وتجديد الخطاب الديني، والعمل على علاقاتٍ دوليةٍ مختلفة، والعمل على علاقاتٍ إقليميةٍ مختلفة، والعمل على استعادة الهوية الوطنية والقومية العربية المشتركة. ويمكن للباحث البدء في أي حلقةٍ أو فرع، وسيجد أنه يؤدي تلقائياً إلى الفرع أو الغصن الآخر. فقد كان الجهد المبذول في الفكر والتدبير بالمجال الديني، ضرورياً للتفكير المتقدم في العلاقات الدولية والإقليمية. كان جهداً في إزالة القتام عن وجه الإسلام في نظر المسلمين أنفسهم وفي نظر الموروث العرفي والثقافي. هو توجُّهٌ صار اتجاهاً في تغيير «رؤية العالم» في مجالنا الثقافي، وفي مخاطبة العالم على طريقة التخلية قبل التحلية. فحتى الاندفاعة الاستراتيجية في التنمية المستدامة وصناعة قيمها الثقافية والرمزية؛ كانت في حاجةٍ إلى نقد الخطاب باتجاه تجديده. نحن المسلمين مطلوبٌ منا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والقيم الكبرى التي تصنع المعروف أو تتكون عناقيده منها، ويرى لنا القرآن الكريم أن نلتقي مع العالم على أساس منها، نحن لا ننفرد بصناعة أعرافها وإجماعاتها. وهذا هو منطق «المعروف» أي أنه شاملٌ أو عالمي؛ وكما طالبنا القرآن الكريم بالانتصار للمعروف العالمي من طريق المبادرة إلى التعارف، ذكر لنا طرائق تحقيق ذلك بالحوار التواصلي من جهة، وبالمنافسة في الانتماء القيمي والإنساني «فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ». ويتطلب ذلك الأمرين السالفي الذكر: التخلية أو تمهيد الطريق بمكافحة التشدد والتطرف، وبتجديد الخطاب في أوساط الجمهور ومع العالم. فنحن لا نريد أن نخاف من العالم، ولا أن نخيفه؛ بل نريد أن نكون جزءاً من سلامه وأمنه وتقدمه، لا نكتفي بالتقبل، بل ونطمح للشراكة في سبل الخيرات أو الصالح العام العالمي والإنساني.
وفي التوجه إلى العالم أو تطلب مشاركته، كانت هناك مسلَّمتان: الوعي بميزاتنا وقدراتنا وتقديرها تقديراً فعلياً صحيحاً. والمسلَّمة الأخرى: الخروج من التبعية والاستتباع حتى لو أغضب ذلك فئاتٍ اعتادت على الاستنامة للاستنزاف، والاستراحة إلى الأمن المستعار، واستراحة الآخرين في المجال العالمي إلى وضعنا في جيوبهم في الملفات الأمنية والاستراتيجية. إنّ معظم ذلك العتيق والتقليدي صار وراء ظهورنا بسبب توافُر الإرادة والوعي والتقدير الصحيح والواقعي من دون ابتسارٍ ولا اعتساف. كان العالم يغوص في مستنقعات «كورونا» عندما حلَّ دور المملكة في ترؤس «مجموعة العشرين». وقد مضت المملكة إلى القيادة والمبادرة تجاه العالم كلّه، وبالذات تجاه فقراء العالم؛ بحيث ما شهدت سنوات مجموعة العشرين، مساعي دؤوبةً لنشر السلم والتعاون، مثل الزمن السعودي على رأس المجموعة. الجميع أصدقاء وهناك ميزانٌ هو ميزان حفظ المصالح وتطويرها بالتعاون من دون افتئات ولا استقطاب. لقد زالت أو أوشكت على الزوال رؤية مالك بن نبي عن قابليتنا للاستعمار، وخضوعنا لإحساسات القهر والعجز. فنحن نُقبل على من يُقبل علينا، ويظلُّ الخيار بأيدينا، ولا نخشى الاضطراب والانعزال أياً تكن الجهة التي تريد خديعتنا عن أنفسنا ومصالحنا.
ولعلّ خير ما يبدو لهذه الجهة التعاون الإقليمي. وملفاتنا أصعب الملفات لأننا شهدنا ما يزيد على العقدين من الآلام والاستنزافات لإقبال قوى إقليمية متعددة على التدخل في شؤوننا استضعافاً وعدوانية. وكانت الحجة دائماً أنهم إنما يقاومون بهذه الطريقة القوى الكبرى التي تتغلغل في ديارنا وهم لا يريدون بنا سوءاً ولا شراً وإنما الذنب ذنبنا في الخضوع الذي لا يريدونه لنا! بل إنّ أطرافاً منهم وليس طرفاً واحداً حملوا راية فلسطين بدلاً منا، ووجدوا ضعفاء يستتبعونهم ويستخدمونهم على طريقة لحسْ المبرد. وهكذا ما تضررت قضية فلسطين فقط؛ بل وعدد من الدول العربية التي صارت فيها ميليشيات تابعة لهذا الطرف أو ذاك. قالت المملكة في زمن الشجاعة والمبادرة: تعالوا نبحث في المصالح الحقيقية، من وراء هذه الفتن المتنقلة، والاستنزافات التي نعاني منها أكثر مما عانينا في العلاقات بالقوى الدولية الكبرى. وما لقيت السياسات الجديدة استجابةً سريعةً أو متوسطة؛ بسبب الاعتياد على الاستكبار والاستعمار، والاستتباع من طريق تخريب العمران وقتل الإنسان وتهجيره. إنما عندما وجدت أطراف ثلاثة أو أربعة أنّ الأمر جديٌّ هذه المرة رضيت بالمفاوضات ودائماً على المصالح الحقيقية أو المشتركة. فحصل اتفاقان أو ثلاثة؛ في سياق الدقّة بالدقة، كما يقول شكسبير. والذي لا يقبل أو لا يستجيب؛ فإنّ الضرر الذي ينزل بمصالحه أكبر من أن يمكن تقديره(!). التجربة في بدايتها، وما ظهرت آثارها كلّها بعد. بيد أنّ الجميع ما عادوا يستغنون عن المبادرة العربية لصون المصالح وحسن الجوار في البر والبحر.
وأحسب أنّ الفرع الرابع لسياسات المبادرة العربية هذه كانت ولا تزال الأصعب. فهناك دولٍ عربيةٍ عدة كانت الأنظمة العسكرية تسودُ فيها لعقود. وقد تشققت بالانقسامات، وظهرت فيها الميليشيات على طريقة قطّاع الطرق والعصابات المسلَّحة، أو بدعمٍ من دول الجوار والعالم الأبعد. المهدَّد اليوم الهوية الوطنية والقومية، وهو تهديد وجود. في كل هذه البلدان التي كانت تخاف من الدولة صارت تخاف عليها. والأنظمة من هذا النوع العتيّ لا تقبل المشاركة مع القوى الداخلية، وهي تفضّل على أي حال مخامرة الخارج على حساب شعوبها، ومن أجل بقاء الجهة الحاكمة لعقودٍ وعقود. ولا يُهمُّ إذا تقسّم الوطن بعد تعملُق الميليشيات بأسماء ومصالح مختلفة. كنا نأخذ على اليمين الأميركي بشدة ذهاب بعض أطرافه إلى أنّ النزاع ثقافي يحدث قبل الاقتصادي والسياسي. وكنا نقول للأميركيين وغيرهم: لا معنى لهذا الكلام إلاّ الهروب للأمام أمام العجز وفقدان الأمل. السعودية تواصلت مع الأطراف المتأزمة، وطرحت مبادرة الاستقرار ووحدة الأرض والشعب، واستعادة الهوية الوطنية، والتصدي لمشكلات التهجير والعنف. والأمر هنا أيضاً لا يزال في بداياته، لتداخل مشكلات التسلط والاستقطاب والخضوع للأمر الواقع.
هذه هي مبادرة السعودية الوطنية والقومية. وهي مبادرةٌ تتغيَّا استقبال الجديد، بل والعمل على صنعه وتكوينه لصالح كل العرب. فالمشكلات كالأواني المستطرقة عندما تدخل إليها المياه؛ يتساوى في التهدد بأخطارها الجميع وليس الطرف الذي سمح بتسرب المياه فقط.
قرأنا جميعاً تصريحات وزيرة الخارجية الألمانية عن مبادرات المملكة العربية السعودية البنَّاءة. وقرأنا تصريح الملك عبد الله الثاني في آماله الكبيرة بمؤتمر القمة العربية لهذا الشهر بجدة؛ وكل ذلك ناتج من سياسات المملكة في التغيير باتجاه البناء، فيا للعرب!