سفر ملكة إسبانيا، ليتيزيا، وابنتها إينفاتا صوفيا، إلى سيدني لدعم فريقهما النسائي في مباراة نهائي كأس العالم لكرة القدم اليوم العاشرة صباحاً بالتوقيت الدولي (غرينيتش)، دفع المعلقين البريطانيين لانتقاد الحكومة لاكتفائها بإرسال وزير الخارجية جيمس كليفري، ووزيرة الثقافة والرياضة لوسي فريزر، بدلاً من ممثلين للتاج البريطاني لدعم الفريق الإنجليزي.
الدعوة للارتفاع بدعم «البنات» إلى مستوى الدعم الرسمي الذي تتلقاه الفرق الرياضية «الرجالي»، تحولت إلى حملة جماهيرية شعبية كظاهرة جديدة في بريطانيا. فالأمر يتجاوز مجرد تحقيق الفريق النسائي القومي بطولات وإنجازات عجز عنها الفريق الرجالي، إلى «ثورة» في عالم الرياضة وفي الكفاح النسائي لتقدم المرأة اجتماعياً في رحلة أجيال لتحقيق المساواة بالرجال. ثورة ذكرتني بالفيلم الكوميدي «تلاعبي بالكرة مثل بيكام»، للمخرجة البريطانية غوريندر تشادا (مولودة في كينيا لأسرة هندية) قبل واحد وعشرين عاماً.
الفيلم مأخوذ عن رواية «شوطي الكرة بقدم بيكام» لكاتبة روايات الأطفال البريطانية ناريندر ضامي (مولودة لأب هندي وأم إنجليزية)، عن ولع فتاة بكرة القدم، وتحول بعد سنوات إلى مسرحية موسيقية راقصة، بطلته فتاة بريطانية مولودة لأسرة هندية تتسلل لتلعب كرة القدم في الحدائق مع الصبيان. نشاطها عُدّ وقتها شذوذاً عن التقاليد البريطانية التي كانت ترى كرة القدم رياضة غير مناسبة للبنات، فما بالك بالأسر الهندية الأكثر محافظة من العائلات البيضاء؟!
وصراع الأجيال الشابة من الأسر الآسيوية في بريطانيا مع التقاليد كان دائماً شاغل المخرجة تشادا في كل أعمالها. الفيلم وقتها رآه الجمهور والنقاد ترفيهاً كوميدياً، لكن مع تفوق بطلته لتلتحق بفريق كرة قدم عالمي، أصبح الفيلم مصدر إلهام لكثير من التلميذات ليقفزن فوق - إن لم نقل بداية إزالة - الحواجز المانعة، لدخولهن واحداً من آخر المعاقل الذكورية التي كانت لقرون طويلة (يعود تنظيم مباريات كرة القدم إلى 1170 ميلادية) حكراً على الأولاد والشباب الذكور – كلعبة خشنة «رجالي».
المفارقة التاريخية الطريفة هنا أن اسم الكتاب (وبالطبع الفيلم نفسه)، الذي تحول إلى واحد من أهم عوامل تحفيز البنات على التوغل في رياضة كرة القدم، ومقاومة اعتراض الأسرة على اشتراك البنات في نشاط «ذكوري أكثر مما ينبغي»؛ كان تقليداً لأيقونة رياضية عالمية «رجالي» تماماً، هو السير ديفيد بيكام (في الثامنة والأربعين) الذي كان من أبرز نجوم فريق كرة القدم القومي الإنجليزي، ولعب في أندية عالمية، وتستخدم صورته لترويج المنتجات الرجالي كالعطور، وصابون الاستحمام، ومستلزمات الشعر، وموضة الملابس، سواء كلاسيكية أو رياضية.
ككاتب ومعلق من الجيل القديم التقليدي الذي شبّ وأمهاتنا - رغم تعليمهن العالي المستوى - لم يخرجن إلى العمل، واكتفين بالنشاط في الأعمال الخيرية، وكثيرنا كرر التجربة مع الزوجات بعد إنجاب الأطفال؛ لم آخذ لعبة كرة القدم النسائية على محمل الجد باعتبارها «حاجة ناعمة» أو «بناتي» بمثابة نشاط ترفيهي. وبالطبع كغيري، عندما تتاح فرصة الذهاب لمشاهدة المباريات، نصفق ونشجع الفرق البريطانية، كفريق أسكوتلندا، أو ويلز، أو فريق إنجلترا؛ والأخير معروف بـ«الأسود» لوجود صورة ثلاثة أسود بالورود على درع باللون الأزرق على علم وملابس الفريق منذ 1863، لكني أعترف أن نظرتي تطورت تماماً في الأشهر الأخيرة، ليس فقط بتحقيق الفريق النسائي ما عجز عنه الرجال (فزن بكأس أوروبا في العام الماضي)، بل أيضاً بسبب إصرار وجدية وبطولة ومهارة وبرود أعصاب الفريق، الذي كما يتوقع القارئ يضع على ملابس لاعباته شعار الفريق القومي (الأسود الثلاثة)، فعُرفن بالاسم المؤنث «اللبؤات».
فالنساء، في معركة المساواة المستمرة لقرون، انتقلن بنجاح من المهن التقليدية، في الرعاية والترفيه كالتمريض، والتعليم، وخدمة المطاعم، والتربية، والفنون والطرب، إلى الطب، والمحاماة، والمعمار، والهندسة، وتحرير الصحف، والتمثيل السياسي، والدبلوماسي، والسلك القضائي، ثم في الرياضة رأينا التطور من الرياضة النسائية التقليدية كالسباحة، والباليه المائي، والتنس، والهوكي، والجمباز، والعدو، وركوب الخيل، إلى الرياضة الأكثر خشونة وذكورية بين اللاعبين والمشجعين، بل هناك تاريخ طويل من الشغب الجماهيري، ومعارك عنيفة بالأيدي والعصي والآلات الحادة بين مشجعي الفرق المتنافسة، سواء فرق وطنية أو بين الأندية، تتطلب تدخل قوات الأمن. الملاحظ أن هذا النوع من الخشونة والصراع والمشاغبات والمتاعب بين المشجعين لا تراه في المباريات النسائية، مما يضفي طابعاً افتقدناه لقرابة نصف قرن غائباً عن الملاعب، وربما تقلد الأندية والفرق والمشجعون الرجالي الفرق النسائية في التركيز على فنون اللعب والتصفيق لـ«اللعبة الحلوة» بلا شغب أو هتافات قبيحة، ونعود إلى سلوك وقت فاز فريق كرة القدم الإنجليزي الرجالي بكأس المونديال بحضور الملكة إليزابيث الثانية (1926-2022) في استاد ويمبلي في عام 1966، وكان المشجعون بالبدلة والكرافات، والسيدات القليلات بقبعات أنيقة. فهل يتكرر التاريخ وتعود بنات الفريق الإنجليزي اليوم بكأس العالم ليحققن ما عجز عنه بيكام وزملاؤه لسنوات؟