الرسم والموسيقى ضحية المواد العلمية والأدبية في تونس

منذ 1 شهر 19

ملخص

شكل تدريس الفنون في تونس على امتداد عقود عدة مكوناً من مكونات المشروع الحضاري لدولة الاستقلال، إذ استثمرت الأجيال المتعاقبة لصقل ملكات الأطفال واليافعين والارتقاء بمواهبهم بما يتماشى مع أهداف التنمية، وخلال الفترة الأخيرة تراجع هذا النشاط فتنامى معدل العنف بالمدارس.

تضم مناهج التربية التونسية في مختلف المستويات الابتدائية والإعدادية والثانوية بعض المواد الفنية كالموسيقى والمسرح والتربية التشكيلية، إلا أنه وفق بعض المتخصصين لا تحظى هذه المواد بذلك الاهتمام الذي عليه المواد العلمية أو الأدبية.

 ويرى البعض أن هذه المواد الفنية لم تحدث بما يتماشى مع تطورات العصر، وبقيت تركز بصورة كبيرة على الجوانب النظرية على حساب الممارسة التطبيقية، وأن نقص الكوادر المتخصصة في الفنون وغلق باب الانتدابات في القطاع العمومي خلال الأعوام الأخيرة وأد مشروع تطويرها.

تهميش مواد الفنون

تقول أستاذة التعليم الثانوي بلقيس خليفة إن "تدريس المواد الفنية في تونس يعاني تهميشاً كبيراً،  ففي مرحلة التعليم الابتدائي نجد مواد في جدول الدراسة ولكننا لا نرى متخصصين يدرّسونها  بمعنى أنه في المستوى النظري هناك مادة التربية التشكيلية ومادة التربية الموسيقية ولكن هذه المواد تدمج قسراً مع المواد الأدبية والعلمية ليتولى تدريسها معلم ذو اختصاص علمي أو أدبي، وأحياناً يتم تجاهلها تماماً بدعوى أنها غير مفيدة للتكوين المعرفي للتلميذ".

تضيف أن "الأسوأ من كل هذا أن غالبية الأولياء لا يرون في هذا إشكالاً ويتبنون موقف المعلمين وهو ما يفضي بالضرورة إلى تهميش هذه المواد.

أما في المرحلة الأساسية فهناك أساتذة متخصصون ولكن يبقى التشجيع على الإقبال على هذه المواد ضعيفاً جداً".

تتابع، "في بعض المؤسسات لا يتوفر أساتذة لتدريسها بالأساس، ونصل إلى مرحلة الثانوي حين تصبح هذه المواد اختيارية وأكثرها حضوراً هي مادة التربية التشكيلية، أما الموسيقى فتكاد تنعدم في غالبية المؤسسات مع غياب كلي للفن المسرحي".

توضح بلقيس، "سعى وزير التربية السابق ناجي جلول إلى إعادة الاعتبار لهذه المواد من خلال التشجيع على بعث نواد ثقافية عشية يوم الجمعة، ينال الأستاذ في مقابل تنشيطها مبلغاً مالياً تشجيعياً، مما أدى إلى إنعاش الحياة الثقافية المدرسية والمصالح الثقافية التي صارت تجتهد في تنظيم مسابقات ثقافية جهوية ووطنية".

خارج أسوار المدرسة

من جهتها تقول رانيا، أم لبنتين تدرسان بالمرحلة الابتدائية، إنها تضطر إلى دفع المال لتعليم ابنتيها مواد فنية مثل العزف على الآلات الموسيقية في حين أن مادة الموسيقى بالمدرسة، ليس لها أية علاقة بالموسيقى فهي عبارة عن حفظ للأناشيد لا غير، حتى أن مدرسة العربية التي لا تعرف شيئاً عن الموسيقى والنوتات الموسيقية هي من تدرس هذه المادة بطريقة غير جاذبة للطلاب بل عبارة عن مادة أخرى للحفظ لا غير".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي رأي ندى، وهي أم لتلميذ في المدرسة أيضاً، فإن "المواد الفنية لا قيمة لها في المنهج الدراسي، صحيح يوجد مادة تسمى تربية تشكيلية وأخرى موسيقى لكن يتم تدريسها بطريقة خاطئة، إذ لا يوجد متخصصون يدرّسون هذه المواد ونجد أن مدرس العربية نفسه هو من يدرّسها للتلاميذ، وأحياناً يتخلى عنها إذا كان مضطراً إلى إنهاء برنامجه السنوي في المواد الأخرى العلمية والأدبية فتكون المواد الفنية هي الضحية".

ويرى كاتب عام المنظمة التونسية للأسرة عامر الجريدي أن" الفن التشكيلي والموسيقى والمسرح  مواد مدرجة في المناهج الرسمية التعليمية لكن بنسب ضعيفة مقارنة بالمواد العلمية والأدبية والإنسانية، مما جعل مردود تدريسها كذلك، فتنامت نسبة العنف والانحرافات والانقطاع المدرسي".

رؤية شمولية لتعليم الفنون

من جانبه، يقول رئيس جمعية جودة التعليم سليم قاسم، "لقد شكل تدريس الفنون في تونس على امتداد عقود عدة مكوناً من مكونات المشروع الحضاري لدولة الاستقلال، إذ استثمرت الأجيال المتعاقبة لصقل ملكات الأطفال واليافعين والارتقاء بمواهبهم، بما يتماشى مع أهداف التنمية ويسهم في بناء شخصيات المتعلمين في بعدها الإنساني الشامل، وبخاصة أن من شأن دروس الرسم والمسرح والموسيقى وغيرها من الأنشطة الفنية أن تساعد على تحقيق جودة مخرجات التعليم، وتمكن من تنمية المهارات الحياتية للناشئة، مثل الإبداع والتواصل والعمل الجماعي وغيرها من المهارات".

يضيف، "لا بأس في هذا السياق من التذكير بأن تونس قد تميزت خلال العقود الماضية بتبنيها رؤية شمولية لتعليم الفنون، إذ أدرجت مواد فنية ضمن المناهج الرسمية منذ وقت مبكر، مما جعلها واحدة من الدول العربية الرائدة في هذا المجال.

3.jpg

وبالتوازي مع ذلك، ازدهرت النوادي المدرسية التي كانت منبراً فاعلاً لتمكين التلاميذ من تطوير مهاراتهم الفنية والموسيقية والمسرحية، عبر برامج متنوعة تركت بصمتها في تكوين الأجيال".

غير أن هذا الإرث المشرق حسب قاسم، "يعزل تعليم الفنون عن التحديات التي يعرفها القطاع التربوي عموماً خلال الأعوام الأخيرة، فالمناهج لم تحدث بما يتماشى مع تطورات العصر، وبقيت تركز بصورة كبيرة على الجوانب النظرية على حساب الممارسة التطبيقية، مما أفقد الدروس زخمها وقربها من اهتمامات المتعلمين، ومع تراجع النوادي المدرسية التي كانت تشكل متنفساً للإبداع، ازداد العبء على المدارس التي لا تستطيع التعويل إلا على موارد محدودة لتعويض هذا النقص".

نقاط مضيئة

يستدرك قاسم، "ومع ذلك، لا يخلو الواقع من نقاط مضيئة تعكس صمود درس الفنون في تونس، ويمكن هنا الإشارة إلى المهرجانات المدرسية التي تنظمها وزارة التربية جهوياً ووطنياً بهدف اكتشاف المواهب الفنية ورعايتها، إذ يبرز المتعلمون بأعمالهم المبدعة في المسرح والغناء والرسم والشعر والأقصوصة وغيرها من الفنون".

يواصل، "إلى جانب ذلك، برز عدد من النوادي والمراكز الفنية خارج الإطار المدرسي ليأخذ مكان النوادي المدرسية المتراجعة، إذ قدمت هذه الفضاءات في القطاعين العام والخاص، بديلاً حيوياً لتنمية المهارات الفنية، مما يفسر تألق التلاميذ التونسيين في المحافل الدولية، وتسجيلهم حضوراً مميزاً في المسابقات العربية والدولية، بما يعكس عمق المواهب المحلية وإمكاناتها الواعدة.

كما نشير أخيراً إلى وجود معاهد عمومية للفنون، والحديث عن تعميم إعداديات ومعاهد متخصصة في الفنون على كافة الولايات، مما يقدم أملاً في تعزيز الاهتمام بهذا المجال".

يختتم قاسم حديثه، "على رغم نقص الموارد المالية والبشرية، وعلى رغم الضغوط التي تفرضها المواد الأكاديمية التقليدية، يبقى درس الفنون في تونس صامداً، ويعود ذلك بلا شك إلى تقاليد تعليم الفنون الراسخة، والطبيعة الميالة للفنون لدى الشعب التونسي، الذي يرى فيها وسيلة للتعبير والانفتاح بعيداً من التحجر والانغلاق".

وكانت الوزيرة السابقة للتربية التونسية قررت تعميم شعبة الفنون على جميع المعاهد بعدما كانت حكراً على معهدين فقط في كامل ولايات الجمهورية إلا أنه مع إعفاء الوزيرة السابقة سقط القرار في الماء.

وآنذاك أوضحت الوزيرة سلوى العياشي أن تعميم الشعبة سيكون بمعدل قسم في كل جهة مع بناء أو تجهيز قاعات نموذجية، مضيفة أن هناك اجتماعات حثيثة مع متفقدي المواد الفنية لإعادة النظر في هذه التجربة وتطوير مناهجها والانفتاح على ممارسات فنية متطورة من قبيل كل ما يتعلق بالرقميات والصورة والإخراج السينمائي وكتابة السيناريو والبستنة إضافة إلى جماليات الديكور والموسيقى العصرية وغيرها.