إنه الشهر الثامن على الشغور الرئاسي يطوي أيامه الأخيرة. فقد نجحت «موالاة» النظام، كما «معارضته» ومَن التحق بها من هوامش «تقاطعت» مع التيار العوني، في تزوير الانقسام الحقيقي في البلد الذي ظهرته ثورة «17 تشرين» بين جائعين ومجوعيهم. لقد أخذا الانقسام عمداً إلى الإيهام بأن الصراع بين خط «سيادي» وآخر «ممانع»، وبين الدولة واللادولة، وبين الاستقلال والاستتباع، فقدَّما مشهدية بائسة أوحى من خلالها كل فريق للتابعين له، كما غيرهم، أن الخلاص يكون بوصول مرشحه سليمان فرنجية أو جهاد أزعور!
في جلسة اقتراع تميزت عن سابقاتها بأن هدفها الإقصاء وليس انتخاب رئيس للجمهورية، وتبعاً للتقدم نحو الهدف، تحقق «المعارضة» المتقاطعة مع العونيين ما يُرسّخ موقعها وحصتها، مع تعطيلها فرض تعيين رئيس... فبدا أن جبران باسيل السياسي المعاقب شعبياً، والمعاقب دولياً بتهم استباحة الدولة للدويلة ولدوره في إفساد الحياة السياسية، رمز في معركة السيادة والاستقلال ورفض الدويلة، ليتعامى عن حقيقة تموضعه السياسي كثيرون، بينهم نواب «تشرينيون»، تحدث بعضهم عن ضمانات أبلغها إليهم المرشح السري أزعور!
الفريقان اللذان لم يقدم أي منهما قراءة للناس عن المسؤولية في اختطاف الدولة والتساكن مع احتكار «الحزب» لقرار السلم والحرب، وتلاشي السلطة والمؤسسات، وعن عصف الانهيارات التي ضربت لبنان، والأزمات المتروكة تتراكم والبلد في الحضيض (...) نجحا بتقديم مسرحية لا يعكر صفوها إفلاس مبرمج ومجاعة زاحفة. لا بل قدما، كلٌ من جهته، الوجه - النموذج للتمسك ببقاء الدولة المزرعة!
«موالاة» يقودها «حزب الله» قالت بصفاقة إن فرنجية تنطبق عليه مواصفات حماية الدويلة وسلاحها اللاشرعي والمشروع الإقليمي الموكل إليها... و«معارضة» اتفقت مع باسيل فادَّعت، بامتطائها وسائل التواصل، أنها سيادية وإصلاحية، قدمت أزعور نموذجها، وهو شخصية تحمل رسالة اعتزام المتسلطين شرعنة الفساد والعفو عن الجرائم المالية... في الوقت عينه تم تغييب تقديم المرشح النموذج، من خارج نظام المحاصصة الغنائمي. مرشح يشبه الناس ويتحسس وجعهم، لكان ذلك ظهر رسالة بأنه لا تراجع عن ملاحقة المسؤولين عن إذلال اللبنانيين، وأنه مهما طال الزمن سيتم سوقهم إلى القضاء المستقل لمحاسبتهم!
هناك اليوم معادلة سلبية عبرت عنها الجلسة الانتخابية المبتورة، والخوف حقيقي أن يكون الستاتيكو الناجم عنها مرشحاً لإقامة طويلة، لأنهم يتعاملون مع الدستور وكأنه يشرع التعطيل والفراغ، بذريعة أن ذلك في صلب الممارسة الديمقراطية (...)، فيهدد كل طرف بتعطيل النصاب، إن لم تكن الرياح تخدم أشرعته. وكسر هذه المعادلة يفترض البحث عن خيار ثالث. مؤسف أن النواب «التشرينيين» التسعة وآخرين مستقلين ليسوا في موقع القدرة على الضغط لفرض خيار يُحتضن شعبياً ويحاصر استعلاء المتحاصصين وجموحهم.
معروف أنه ضمن المعطيات الراهنة كل أحاديث «حزب الله» وفريقه عن الحوار لا تعدو كونها أحاديث تقطيع وقت، فالحوار الذي يريد محصور في مرشحه؛ ما يعني إطالة الشغور وتعمق الأزمات. كان النائب محمد رعد قد توجه إلى معارضي «الحزب» بدعوتهم إلى حوار فرنجية «وشوفوا شو بتاخدوا منه»!
وبذلك يكون «الثنائي المذهبي» توجه برسالة للآخرين مفادها: لا رئيس للجمهورية ولو توافرت له أكثرية عددية. وما كان في العهد العوني لا تراجع أنملة عنه لجهة إمساك «حزب الله» بالرئاسة والحكومة والبرلمان وصناعة القرار، في أداء فظ يستثمر في الشغور كما الفراغ بوصفهما وسيلة ناجعة في خدمة مشروعه السياسي؛ إحكام السيطرة والمضي في مخطط الاقتلاع، بفرض ثقافة دخيلة ونمط تربوي واجتماعي شمولي يمزق النسيج اللبناني ويعجل إلحاق البلد. والواضح أنه لا يدخل في قاموس «حزب الله» أي التفاتة إلى تداعيات هذه السياسة، وما ينجم عنها من مراكمة خسائر للبنان واللبنانيين، وهو مطمئن إلى أن نهجه يضمن مصالح ومكاسب فئوية لآخرين في التحالف السياسي الاحتكاري المصرفي والميليشيوي متعدد الولاءات الذي استثمر بدوره في الانهيارات، وحقق مكاسب مادية فلكية!
على قاعدة التعادل السلبي، فإن التقدم العددي في البرلمان لا يقرش! ولن يطال الخلل الوطني وقد تساكنوا في ظله لعقود، وتشاركوا «إنجاز» إنهاء دور البرلمان التشريعي المحاسبي الرقابي والانتخابي، ما أنهى اللعبة الديمقراطية ودور صندوقة الاقتراع! لذا وحتى فرض موازين قوى جديدة تستعيد الناس إلى الفعل السياسي، يستمر «حزب الله» بوضع اللبنانيين أمام واقع أن اختيار الرئيس مِن حقوقه، وأنه صاحب القرار، وما على البرلمان إلا البصم، وإلا فالبديل تهديد ووعيد وتخوين، منطلقه ميزان قوى راجح لمصلحته، ويروج بأن المنطقة في قبضة «انتصارات» محوره؛ فأين المفر؟
مرة وحيدة أصيبوا بالقلق؛ يوم ضجَّت الساحات بمئات الألوف الذين توجهوا للمتسلطين بالقول: «لنا حقوق برقبتكم وسننتزعها»، فأصابت «ثورة تشرين» نظام المحاصصة بالتداعي. أكثر من جهة نقلت البندقية من كتف إلى كتف توسلاً لكسب، فيما ذهب «حزب الله» إلى البطش والقمع والحرق بعد انكشاف محاولات التبرؤ وسقوط نهج الاستيعاب والتطويع... ليتبين، في 15 مايو (أيار) 2022، أن اللبنانيين لم يرضخوا؛ فكان التصويت العقابي الواسع، ما عرقل مخططات وأخر مشاريع سوداء، وما زال التحدي نفسه: كيف يمكن كسر الحلقة الجهنمية؟ وكما أن القمع والتحريض لم يفقدا الناس البوصلة، فتراكم خيبات عام صعب أعجز من أن يحبط محاولات مَن فقدوا كل شيء، ومعهم نخب واسعة، ابتكارَ أدواتٍ كفاحية تعيد الفعل للنصاب الوطني الحقيقي.