الذكاء الصناعي والتعليم

منذ 1 سنة 290

نعى أفلاطون اختراع الأبجدية، وكان قلقاً من أن استخدام النص من شأنه أن يهدد فنون البلاغة التقليدية القائمة على استحضار الذاكرة. وفي كتابه «الحوارات» التي أجراها أفلاطون، مجادلاً بصوت ثاموس (آمون)، ملك الآلهة المصري، زعم أن استعمال هذه التقنية الأكثر حداثة سوف يخلق «النسيان في نفوس المتعلمين، لأنَّهم لن يستخدموا ذكرياتهم»، ولأنها لن تساعد على نقل «الحقيقة، وإنما مظهر الحقيقة فقط»، وأن أولئك الذين يتبنونها «سيظهرون بمظهر المطلعين على كل شيء، في حين أنهم لن يعرفوا شيئاً بصفة عامة»، مع «إظهار الحكمة من دون الواقع».
إن كان أفلاطون باقياً على قيد الحياة اليوم، هل كان سيقول كلمات مماثلة عن روبوت الدردشة ChatGPT؟
إن ChatGPT، عبارة عن برنامج حواري بالذكاء الصناعي، صدر مؤخراً من قبل شركة «أوبن إيه آي»، وهو ليس مجرد مكون مستحدث جديد ضمن دورة الضجيج للذكاء الصناعي. بل إنه تقدم كبير يمكن أن ينتج مقالات رداً على أسئلة مفتوحة يمكن مقارنتها بالمقالات الجيدة في المدرسة الثانوية.
من شأن بعض الجوانب الأكثر إثارة للاهتمام والتشويق في برنامج ChatGPT أن تتضح في المدارس الثانوية، وحتى في الكليات.
لا يُكلفُ الطلاب في المعتاد بمهمة كتابة المقال لأن النتيجة لها قيمة كبيرة - الآباء الفخورون يضعون العلامات الجيدة على الثلاجة جانباً - وإنما لأن العملية نفسها تُعلمُ مهارات مهمة: البحث في موضوع المقال، والحكم على الادعاءات، وتوليف المعرفة ثم التعبير عنها بطريقة واضحة ومتماسكة ومقنعة. ومن شأن هذه المهارات أن تكون أكثر أهمية بسبب التقدم في الذكاء الصناعي.
عندما سألت ChatGPT مجموعة من الأسئلة - حول التحديات الأخلاقية التي يواجهها الصحافيون الذين يعملون مع المواد المخترقة، وضرورة تنظيم العملات المشفرة، وإمكانية التراجع الديمقراطي في الولايات المتحدة - كانت الإجابات مقنعة، ومبررة، وواضحة. كما أنها كانت تفاعلية: إذ يمكنني أن أطلب المزيد من التفاصيل أو أطلب التغيير فيها.
لكن بعد ذلك، عند التطرق لمواضيع أكثر صعوبة، أو مفاهيم أكثر تعقيداً، قدم ChatGPT في بعض الأحيان، إجابات معقولة للغاية كانت خاطئة تماماً - وهو شيء حذّر منه مبتكروه في بيان إخلاء المسؤولية.
ما لم تكن تعرف الجواب بالفعل، أو كنت خبيراً في هذا المجال، فقد تتعرَّض لأكاذيب خادعة عالية الجودة.
وكما تنبأ أفلاطون، سوف تواجهون: «استعراضاً للحكمة بعيداً عن الواقع».
مع ذلك، لا يعني كل هذا أن برنامج -ChatGPT أو الأدوات المماثلة، لأنه ليس الوحيد من نوعه - لا يمكن أن يكون أداة مفيدة في التعليم.
كانت المدارس تتعامل بالفعل مع ثروة المعرفة على الإنترنت، إلى جانب أكاذيبها، ومزاعمها المضللة، ومصانع مقالاتها.
إحدى الطرائق كانت تغيير طريقة التدريس. بدلاً من الاستماع إلى محاضرة في الفصل الدراسي ثم الذهاب إلى المنزل للبحث وكتابة مقال، يستمع الطلاب إلى محاضرات مسجلة ثم يباشرون الأبحاث في المنزل، ثم يكتبون مقالات في الفصل الدراسي، مع الإشراف، وحتى بالتعاون مع الأقران والمعلمين. وتُسمى هذه المقاربة «تقليب» الفصول الدراسية.
في الفصول الدراسية المُقلبة، لا يستخدم الطلاب برنامج ChatGPT لاستحضار مقالة كاملة. بدلاً من ذلك، يستخدمونه كأداة لتوليد عناصر بناء المقالات التي تُفحص بصورة نقدية. سيكون الأمر شبيهاً بكيفية السماح للطلاب في فصول الرياضيات المتقدمة باستخدام الآلات الحاسبة لحل المعادلات المعقدة من دون تكرار الخطوات المملة والمتقنة سابقاً.
يمكن للمعلمين تكليف الطلاب بموضوع معقد، ويسمحوا للطلاب باستخدام هذه الأدوات كجزء من بحثهم. ويجري تقييم مدى صدق وموثوقية هذه المذكرات، الناتجة عن الذكاء الصناعي، واستخدامها في كتابة مقال داخل الفصل الدراسي، مع التوجيه والإرشاد من قبل المعلمين. والهدف من وراء ذلك هو زيادة جودة وتعقيد الحجة المطروحة.
سوف يتطلب ذلك مزيداً من المدرسين لتقديم ملاحظات مفصلة. وما لم تتوفر الموارد الكافية بصورة منصفة، فإن التأقلم مع الذكاء الصناعي الحواري في الفصول الدراسية المُقلبة يمكن أن يؤدي إلى تفاقم أوجه عدم المساواة.
في المدارس ذات الموارد المحدودة، قد ينتهي الأمر ببعض الطلاب إلى تسليم مقالات أنتجها الذكاء الصناعي من دون اكتساب مهارات مفيدة أو معرفة ما كتبوه فعلاً. «ليست الحقيقة، وإنما مظهر الحقيقة فقط»، كما قال أفلاطون.
قد يتعامل بعض مسؤولي المدارس مع هذه المشكلة على أنها مجرد مشكلة اكتشاف انتحال الملكية الأدبية، وتوسيع استخدام أنظمة المراقبة المتشددة. خلال فترة الوباء، أُجبر العديد من الطلاب على إجراء اختبارات، أو كتابة مقالات تحت مراقبة نظام آلي لتتبع العين، أو على حاسوب مغلق لمنع الغش.
في سباق التسلح غير المثمر ضد الذكاء الصناعي الحواري، قد تصبح برامج الانتحال الأدبي الآلية مشحونة للغاية، مما يجعل المدرسة أكثر عقاباً للطلاب الذين يخضعون للمراقبة. الأسوأ من ذلك، أن مثل هذه الأنظمة سوف تسفر حتماً عن بعض الاتهامات الزائفة التي من شأنها أن تلحق الضرر بالثقة، بل وقد تعيق آفاق الطلاب الواعدين.
الأساليب التعليمية التي تُعامل الطلاب كأعداء قد تلقنهم كراهية الضوابط أو محاولة العبث بها وتخريبها. وهذه ليست وصفة لتحسين حياة الإنسان أبداً.
في حين قد يتأخر بعض الطلاب، فإن الذكاء الصناعي المتقدم سوف يخلق طلباً على مهارات أخرى المتقدمة. في سنة 1971. لاحظ هربرت سيمون، الحائز جائزة نوبل، أن قيمة اهتمامنا تطورت مع ازدياد المعلومات بشكل ساحق. «وفرة المعلومات تخلق فقراً في الاهتمام»، كما قال. وعلى نحو مماثل، فإن القدرة على تمييز الحقيقة من وفرة الإجابات المعقولة ظاهرياً، ولكنها غير صحيحة إلى حدٍ كبير، سوف تكون ثمينة.
وبالفعل، حظر موقع «Stack Overflow” الإلكتروني واسع الاستخدام، حيث يتبادل المبرمجون أسئلة البرمجة بين بعضهم بعضاً، الإجابات الصادرة عن ChatGPT، نظراً لأن الكثير منها كان هراء يصعب اكتشافه.
فلماذا نعتمد عليه بالأساس؟
على أقل تقدير، لأنه سوف يُغير العديد من المهن قريباً. فإن النهج الصحيح في مواجهة التقنيات التحويلية هو معرفة كيفية استخدامها لتحسين البشرية.
كان التحسين هدفاً للتعليم العام على مدى القرن ونصف القرن الماضيين على الأقل. ولكن في حين جلبت شهادة الدراسة الثانوية وظيفة أفضل ذات يوم، فإن أجور خريجي المدارس الثانوية في العقود القليلة الماضية كانت متخلفة إلى حدٍ كبير عن أجور خريجي الجامعات، الأمر الذي أدى إلى تعزيز عدم المساواة بين الناس.
إذا عزز الذكاء الصناعي من قيمة التعليم للبعض مع الحط من قيمته لدى الآخرين، فإن الوعد بتحسين التعليم سوف يُنقض.
لقد أخطأ أفلاطون حين ظن أن الذاكرة هدف في حد ذاتها، وليست وسيلة تمكن الناس من الحصول على الحقائق حين دعوتهم، حتى يتمكنوا من تقديم تحليلات وحجج أفضل. لقد طور اليونانيون تقنيات عديدة لحفظ قصائد مثل الأوديسا، بأبياتها التي تتجاوز 12 ألف سطر. لماذا نزعج أنفسنا بحفظها إن كان بإمكاننا تدوين كل ذلك في الكتب؟
وبما أن أفلاطون كان مخطئاً حين خشي من تحول الكلمة المكتوبة إلى عدو، فمن الخطأ أن نتصور أنه لا بد من مقاومة عملية تسمح لنا بجمع المعلومات بقدر أعظم من السهولة.