الدولة والتاريخ الثقافي ومناهج التغيير

منذ 1 سنة 258

عندما كانَ علماءُ الأنثروبولوجيا وفلاسفة الدين يشتغلون على الفروق بين الدين والثقافة؛ كانوا يحسبون شأنَ مارسيل غوشيه أنَّ الأوروبيين خرجوا من الدين ولم يخرجوا عليه. وأنّ الذهاب باتجاه الثقافة بعد مغادرة الحرام الديني يسهِّل عمليات التغيير إلى حدٍ كبير.
وما كان في الحساب أنّ بعض العادات والأعراف والانطباعات العامة الداخلة في الثقافة تتحول إلى ما يشبه الدين؛ وهذا أمرٌ مختلفٌ عن تحول «التديُّن» إلى دينٍ وإن يكن بين الاثنين نسبٌ وسبب. مناسبة هذا الحديث ما تكرر على ألسنة كثيرٍ من المتحدثين في الآونة الأخيرة عن سوء العلاقة القديمة بين الدين والدولة في الإسلام الأول والكلاسيكي. وهم يحتجون لذلك بأثر نبوي: «تكون الخلافة ثلاثين عاماً ثم يكون مُلْكٌ عَضوض»! وقد استمر هذا التصور وتعقْد حتى صار اعتقاداً شبهَ يقيني، ودعمه مستشرقون كثرٌ في الأزمنة الحديثة، ثم صار يقيناً لدى الصحويين والأصوليين. فكانت النتيجة هذه الحملة الشعواء على الدولة الوطنية والغزو الثقافي الغربي، شأن ما كان للدثائر اليونانية والإيرانية من تأثيرٍ كبير على تقاليد ودواوين الدولتين الأموية والعباسية. لقد تبيَّن لي (وقد عملتُ في أطروحتي على بعض الثوار على الأمويين) أنّ الأمويين ما كانوا أقلّ التزاماً بالإسلام من خصومهم. فهم ما كانوا من أهل السابقة ولا من أهل قرابة النبي، ولذلك فقد استندوا إلى الإسلام بعامة، واشتغلوا على بناء إمبراطورية بالفتوحات والجهاد. فما كان الأمويون قليلي الدين.
وعندما استولى العباسيون ما تغير هذا الأمر، وبخاصة أنهم كانوا من سلالة العباس بن عبد المطلب عم النبي (صلى الله عليه وسلم). نوعان من أنواع الشرعية: شرعية التأسيس وشرعية المصالح. وتقوم شرعية التأسيس على الوحدات الثلاث: وحدة الدين والدار والسلطة. أما المصالح فالمعنى بها حسن إدارة الشأن العام في ظل قيم وممارسات العدالة. ومشروع الدولة هو مشروع العلماء أيضاً، ولذلك فهم لا يتصارعون مع السلطات، والاختلاف مع السلطة القائمة من جانب سائر الفئات يدخل في نطاق المصالح التي لا يشكل الخلاف حولها خطراً على الدولة، وينتهي بالمصالحة حتى لو كان نزاعاً مسلَّحاً. هو تاريخ قديم وما كان العلماء كما يصورهم الأصوليون اليوم إما ثواراً أو عبيداً للسلطان. لكنّ الانطباع عن وقوف السلطات في وجه الدين استمر عبر العصور، وعاد مسلَّمة قوية في الأزمنة الحديثة؛ حيث شيطن الصحويون الدولة الوطنية (المتغربة) مثلما فعل الثوار الراديكاليون مع خصومهم في إدارة الدولة قديماً. ما مآل هذا كلّه؟ لا يقتصر الأمر على تصحيح الصورة التاريخية للعلاقة بين الدين والدولة؛ وهذا أمر خطير على كل حال. بل ضرورة التحول ضمن رؤية أُخرى للعالم من التأريخ العقدي إلى التاريخ الثقافي. ومقتضى ذلك الانفتاح من جهة البدايات على واقع دخول العناصر البيزنطية والفارسية واليونانية والسريانية على التاريخ والحضارة، ووجود التيارات الفكرية المتجددة والمتواشجة في الثقافة العربية والإسلامية الكلاسيكية. إنّ وقائع الضيق والانكماش التي أفضت إلى التشدد المشهود في الأزمنة الحديثة، هي أساس فكرة انحطاط الألف عام، وأساس فكرة العصور الوسطى الإسلامية المماثلة في ظلامها للعصور الوسطى الأوروبية.
وهكذا فإنه كما خرج الأوروبيون من العصور الوسطى، ينبغي أن يخرج المسلمون بالأسلوب نفسه من عصورهم الوسطى! والمقصود بالأسلوب الفصل بين الدين والدولة، باعتبار هذا عائقاً دون التقدم. وهذا ما طالب به فرح أنطون الشيخ محمد عبده في مطلع القرن العشرين. وقد أجابه محمد عبده أنَّ الحكمَ في الإسلام مدني، بمعنى أنَّ الدولة لا تُحكَمُ بالدين، فلا حاجة للتصارع بينهما على السلطة! بيد أنّ هذا هو ما وقع في النصف الثاني من القرن العشرين عندما ظهرت أفكار النظام الكامل والحاكمية.
في حين ظلّ التحديثيون أجانب وعرباً يتابعون دراسات الانحطاط، ويقترحون الأساليب للخروج منه ومن ضمنها نفي الموروث أو الخلاص منه. وهذه الفكرة نفسها عن الانحطاط (إنما بسبب الابتعاد عن الدين الحنيف) ظهرت لدى الإسلامويين والصحويين، الذين كافحوا الغزو الثقافي الغربي، وأرادوا التشبث بالأصالة في مواجهة كل دخيل! وقد كانت لذلك آثار سلبية على الدولة الوطنية، في تجربتها الأولى والثانية.
إنَّ من فوائد انتهاج سبيل التاريخ الثقافي ظهور استمرارية الحضارة وتعدد تياراتها التي ما كانت بينها قطيعة، وإن لم يكن الوفاق التام سائداً بين اتجاهاتها، وإنما كانت الثقافة الإسلامية بمثابة الشبكة الضخمة لجهتي الذاتية والترابط. وقد ازدهرت في النهاية حضارة عظيمة ما داخلها الانحطاط كما يزعم هذا الطرف أو ذاك، وإنما قهرها الغزو بعد القرن الثامن عشر. وهناك جدلٌ عظيمٌ اليوم بشأن الدولة الوطنية وتجربتها تتجدَّد في عددٍ من الدول العربية؛ لكنّ دعاة القطيعة من الشرق والغرب بعضهم يبحث عن الفرادة والتفرد، والبعض الآخر يبحث عن الأصالة والعراقة والقدسية! ويردُّ على هؤلاء مثقفون عرب كبار يريدون القطيعة مع الموروث الإسلامي مثلما يريد الصحويون استهداف الثقافة الغربية. وبالطبع فإنه بعد العنف الهائل فالانحدار الهائل في التوقعات؛ فإنّ هذه التأملات المتناقضة صارت كلاماً نظرياً، وقد كُتبت عشرات الألوف من الصفحات عن النظام الكامل من جهة، وعن القطيعة من جهة أُخرى.
لكنْ يبقى لها تأثير بالطبع في الفكرة السائدة عن الخصومة المستمرة بين الدين والدولة منذ القديم. في حين يريدها المثقفون العرب علمانية صافية لا تنتهي نصاعتها! وفي حين يختار الصحويون والجهاديون من النصوص والوقائع التاريخية ما يعتبرونه دالاً على النظام الكامل؛ فإنّ تصويت الإسلاميين أو عدم تصويتهم غير ذي معنى ما دامت «العقدنة» مستمرة ولا إصغاء لآمال الناس وتوقعاتهم.
لسنا محتاجين إلى أن يكون النظام السياسي عقيدة حتى يمكن الحفاظ عليه. يكفي ما نرى في العالم اليوم من صراعاتٍ على الدولة لكي نخاف عليها بدلاً من الخوف منها. وقد كان ديدني دائماً القول؛ لا بد من استعادة السكينة في الدين، وتجديد تجربة الدولة الوطنية، وتصحيح العلاقة مع العالم!