ملخص
على رغم أن اضطراب "الدسليكسيا" شائع فإن كثيراً من الأشخاص لا يزالون يواجهون تحديات كبيرة في التعرف عليه وفهمه.
يحفل تاريخ العباقرة والمبدعين في مجالات عدة بأشخاص جمعتهم قصة فريدة ترتبط بصعوبات تعليمية "عسر القراءة والكتابة" أو "الدسليكسيا"، على غرار ألبرت أينشتاين وينستون تشرشل وتوم كروز وستيف جوبز وريتشارد برانسون وستيفن سبيلبرغ.
و"الدسليكسيا" قد يجري تشخيصها في مرحلة الطفولة، وربما في الشباب أو الكهولة أو اكتشاف الأزمة بعد رحيل الشخص، في ظل عدم وجود تعريف محدد للمشكلات التي عانوا منها خلال حياتهم.
سواء العالم والفيزيائي الشهير أينشتاين أو القائد البريطاني المهيب والكاتب المبدع تشرشل أو النجم الهوليوودي اللامع كروز أو صاحب الابتكارات الثورية التكنولوجية جوبز أو رجل الأعمال البريطاني ومؤسس مجموعة "فيرجن برانسون" أو المخرج العالمي سبيلبرغ، عانى كل واحد من هؤلاء من صعوبات في المدرسة وكانت له تجربة تعليمية غير يسيرة، لكنهم جميعاً تغلبوا على هذا التحديات وحققوا مسيرات مهنية استثنائية.
ما "الدسليكسيا"؟
بحسب موقع جمعية "الدسليكسيا" الدولية، فإن هذا المصطلح يشير إلى ما يسمى "عسر القراءة" أي اضطراب تعليمي يؤثر في القدرة على القراءة والكتابة بصورة صحيحة. وعلى رغم أن هذا الاضطراب شائع، فإن كثيراً من الأشخاص لا يزالون يواجهون تحديات كبيرة في التعرف عليه وفهمه.
يعود مصطلح "الدسليكسيا" إلى كلمتين يونانيتين هما "dys" وتعني صعوبة و"lexia" أي اللغة أو الكلمات، ثم تمت صياغته لأول مرة في عام 1887 من قبل طبيب العيون الألماني رودولف برلين لوصف حالة يعاني فيها الأفراد من صعوبات في القراءة والكتابة على رغم ذكائهم وقدراتهم الحسية الطبيعية.
منذ ذلك الحين، تطور فهمنا لـ"الدسليكسيا" بصورة كبيرة، ففي أوائل القرن الـ20، وصف الطبيب البريطاني ألفريد راد الحالة بشكل أوسع، مشيراً إلى أن لها أساساً عصبياً. وفي الخمسينيات والستينيات، كشفت الأبحاث أن "الدسليكسيا" ليست مجرد مشكلة في الرؤية بل هي اضطراب عصبي يؤثر في مناطق معينة في الدماغ المسؤولة عن معالجة اللغة.
خلال السبعينيات والثمانينيات، أشير إلى أن "الدسليكسيا" تتعلق بصعوبات في الوعي الصوتي ومعالجة الصوتيات. واليوم، تعرف بأنها اضطراب تعلمي ذو أصل عصبي يتميز بصعوبات في القراءة الصحيحة والطلاقة وضعف في تهجئة الكلمات، وقد يكون مصحوباً بصعوبات في الكتابة، وتتحدث مصادر عن حوليات عسر القراءة وهو المفهوم الحديث للمصطلح.
يصنف هذا الاضطراب ضمن صعوبات التعلم النوعية ويتميز بصعوبة في التعرف على الكلمات المكتوبة، وصعوبة في الهجاء، والكتابة بشكل دقيق. من المهم أن نميز بين "الدسليكسيا" وصعوبات التعلم الأخرى، مثل اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط الحركي، إذ لكل اضطراب سماته وخصائصه.
واحد من كل 10 أشخاص في المملكة المتحدة يعاني من عسر القراءة (غيتي)
ومن الضروري أيضاً التأكيد أن "الدسليكسيا" ليست مرضاً، بل هي اضطراب تعليمي. يختلف هذا الاضطراب عن الأمراض لأنه ليس شيئاً يمكن علاجه أو التخلص منه بصورة كاملة، بل حالة مستمرة تتطلب استراتيجيات تعليمية وتدريبية للتغلب على التحديات المرتبطة بها. ويستطيع الأشخاص المصابون بـ"الدسليكسيا" التمتع بحياة كاملة ومنتجة وتحقيق نجاحات كبيرة إذا حصلوا على الدعم المناسب.
تتضمن أعراض "الدسليكسيا" صعوبة في التعرف على الكلمات المكتوبة، والقراءة ببطء، وارتكاب أخطاء إملائية بصورة متكررة. قد يظهر الأطفال المصابون بها أعراضاً مثل صعوبة في تعلم الحروف الأبجدية، مشكلات في تعلم القوافي، وصعوبة في تهجئة الكلمات. ويتم تشخيصها من خلال تقييمات شاملة تشمل اختبارات القراءة والكتابة، والتقييمات النفسية والتربوية. من الممكن أن يساعد التشخيص المبكر في تقديم الدعم المناسب وتجنب التأثيرات السلبية طويلة الأمد على التعليم.
من الأكثر عرضة للإصابة به؟
يذكر موقع المعهد الوطني للصحة العقلية، أن الأبحاث تشير إلى أن "الدسليكسيا" غالباً ما تكون ناجمة عن عوامل وراثية، ويكون الأطفال الذين يعاني أحد والديهم أو كلاهما من "الدسليكسيا" أكثر عرضة للإصابة بهذا الاضطراب.
وإضافة إلى العوامل الوراثية، يمكن أن تؤثر العوامل البيئية والتطورية على ظهور عسر القراءة. وتظهر الدراسات العصبية أن الأفراد المصابين بـ"الدسليكسيا" لديهم اختلافات في كيفية معالجة الدماغ للمعلومات المكتوبة، خصوصاً في مناطق الدماغ المسؤولة عن اللغة والقراءة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تظهر "الدسليكسيا" في الغالب في مرحلة الطفولة المبكرة، وعادة ما يتم اكتشافها عندما يبدأ الطفل في تعلم القراءة والكتابة في المدرسة الابتدائية. يمكن أن تظهر العلامات الأولى في سن ما قبل المدرسة، مثل تأخر الكلام وصعوبة في تعلم الأناشيد أو القوافي البسيطة، ولكن بالنسبة لبعض الأطفال، قد لا يتم التعرف على "الدسليكسيا" حتى يتقدموا في المراحل الدراسية العليا ويواجهوا صعوبات متزايدة في القراءة والكتابة.
تشير الأبحاث إلى أن الذكور أكثر عرضة للإصابة بـ"الدسليكسيا" مقارنة بالإناث. وأظهرت دراسات نشرتها مجلة صعوبات التعلم أن نسبة الإصابة بـ"الدسليكسيا" لدى الذكور تفوق نسبة الإصابة لدى الإناث بمرتين إلى ثلاث مرات. ليست أسباب هذا الفارق مفهومة تماماً، ولكنها قد تكون مرتبطة بالعوامل الوراثية والبيولوجية، إضافة إلى الاختلافات في كيفية تشخيص الحالة بين الجنسين.
العرق والثقافة
تعد الدسليكسيا اضطراباً عالمياً يؤثر في الأفراد من جميع الخلفيات العرقية والثقافية. وتناقش مقالة في مجلة البحوث في الحاجات التعليمية الخاصة أن "الدسليكسيا" تحدث بين جميع الأعراق، ولا توجد أدلة على أنها أكثر شيوعاً في عرق معين.
ومع ذلك، فإن الفروق في التشخيص والدعم قد تعتمد على العوامل الثقافية والتعليمية والاقتصادية، مما يمكن أن يؤثر في مدى تشخيص وعلاج "الدسليكسيا" بين البلدان المختلفة أو حتى الشرائح الاجتماعية المختلفة ضمن البلد الواحد بسبب التفاوت في جودة التعليم، والوصول إلى الخدمات الصحية والنفسية، والدعم المتاح للأطفال الذين يعانون صعوبات تعليمية.
ومع أن "الدسليكسيا" حالة وراثية، أي إن الشخص يكون مصاباً بها منذ الولادة، إلا أنه قد لا يتم التعرف عليها إلا في مراحل لاحقة من الحياة، بخاصة إذا كانت الأعراض خفيفة أو إذا طور الفرد استراتيجيات للتعويض عن صعوبات القراءة.
يمكن أن يكون هناك أشخاص بالغون لم يتم تشخيصهم بـ"الدسليكسيا" إلا بعد أن يواجهوا تحديات أكاديمية أو مهنية تتطلب مهارات قراءة وكتابة دقيقة.
هنا تتحدث الصحافية ميس البالغة من العمر 40 سنة، أن تشخصيها لم يتم إلا في عام 2019 عندما كانت تحضر لرسالة الماجستير في بريطانيا، إذ شرحت للمشرف على رسالتها بأنها تمتلك كثيراً من الأفكار لكنها تجد صعوبة بالغة في تحويلها إلى جمل وعبارات، فاقترح عليها أن تخضع لاختبار "الدسليكسيا"، الذي تصفه بأنه لحظة حاسمة في حياتها، فسرت وأجابت عن التساؤلات التي كانت ترافقها لسنوات طويلة حول قدراتها وإمكاناتها.
تحديات وصعوبات
يواجه الأفراد المصابون بـ"الدسليكسيا" تحديات كبيرة في البيئة الأكاديمية، مثل صعوبة في القراءة والفهم، تعذر الكتابة والهجاء، وتأخر في تطوير مهارات اللغة، إضافة إلى التحديات الأكاديمية، يمكن أن تؤثر "الدسليكسيا" على الثقة بالنفس والتفاعل الاجتماعي، فقد يشعر الأطفال بالإحباط والإقصاء نتيجة صعوباتهم المستمرة.
وتقول متخصصة التجميل جوانا، التي عرفت بأنها تعاني عسر القراءة والكتابة في سن الثامنة كيف كانت تشعر بالانعزال لأنها كانت بطيئة مقارنة بزملائها في الفصل المدرسي وأنها كانت تصف نفسها أحياناً بالغباء والخمول.
إذاً "الدسليكسيا" حالة مستمرة ترافق الشخص مدى الحياة، ولا يوجد علاج نهائي لها، ويمكن أن تؤثر في جوانب متعددة من حياة الشخص، بما في ذلك الفرص المهنية والعلاقات الاجتماعية، ولكن هذا التأثير يعتمد إلى حد كبير على الدعم الذي يتلقاه الشخص والاستراتيجيات التي يتبناها.
الفنان العالمي توم كروز واحد ممن تحدوا "الدسليكسيا" (رويترز)
قد تؤثر صعوبات القراءة والكتابة على الأداء الأكاديمي والتدريب المهني، مما قد يحد من الفرص التعليمية والمهنية، بخاصة في الوظائف التي تتطلب قراءة وكتابة مكثفة أو معالجة سريعة للمعلومات النصية، مثل المجال القانوني أو المحاسبة أو الإدارة والموارد البشرية، إذ يمثل هذا تحدياً للأشخاص المصابين بها.
لكن كثيرين من الأشخاص المصابين بـ"الدسليكسيا" يطورون مهارات تعويضية قوية، مثل التفكير الإبداعي وحل المشكلات والتواصل الشفهي الفعال وينجحون بصورة لافتة في مجالات تتطلب إبداعاً وابتكاراً مثل ريادة الأعمال والفنون والرياضة.
بالعودة إلى الصحافية ميس فتحكي كيف تحول شغفها من أن تكون أمام الكاميرا إلى العمل خلفها عندما اكتشفت أن قدراتها البصرية هي نقاط قوة إضافية تميزها في صناعة المحتوى الإعلامي وإنتاج البرامج.
على الصعيد الاجتماعي، قد يواجه الأطفال والمراهقون الذين يعانون "الدسليكسيا" صعوبات في تقديرهم لذواتهم وثقتهم في أنفسهم، وقد تنعكس مشكلاتهم في التعلم والتعبير عن أنفسهم على تفاعلهم الاجتماعي وتشعرهم بالعزل وفقدان الأمل.
وتؤكد جوانا أنها كانت عرضة لتنمر شديد في المرحلة الإعدادية، حين استغل بعض الطلبة السيئين بطأها في الرد وعدم قدرتها في بعض الأحيان على صياغة جمل كاملة لتدافع عن نفسها، مما أجبرها في النهاية على ترك المدرسة وعدم إكمال تحصيلها العلمي إلى أن تمكنت من إعادة بناء ثقتها بنفسها وامتلكت مهارات تواصل شفوي قوية، قررت حينها الانتساب إلى كلية التجميل.
بحلول وقت تخرجها، كانت ثقة جوانا كافية لتعمل في أضخم الاستوديوهات ومع أبرز النجوم والإعلاميين وتستمع بتبادل أطراف الحديث معهم بينما تترك لمساتها السحرية على وجوههم.
ويشير الدكتور بسام كيلاني متخصص الإرشاد والتأهيل النفسي والمجتمعي المقيم في تركيا، إلى أنه على رغم عدم وجود علاج دوائي أو علاج سلوكي نهائي لـ"الدسليكسيا" فإنه يمكن تعلم استراتيجيات وأساليب للتغلب على التحديات التي تفرضها.
ويستطيع الأشخاص تطوير مهارات تعويضية وتحسين قدراتهم على القراءة والكتابة من خلال التدخلات التعليمية المناسبة والدعم المستمر وتوفير البرامج المتخصصة والموارد اللازمة، وفقاً لكيلاني.
وهناك أهمية بالغة لدعم العائلة والأصدقاء والمعلمين لتعزيز الثقة بالنفس وتوفير بيئة مشجعة، ويمكن أن تؤدي زيادة الوعي بفهم "الدسليكسيا" داخل المجتمع والمدارس إلى تقليل الوصمة المرافقة للاضطراب وتعزيز التقبل والدعم. كذلك تلعب التكنولوجيا في يومنا هذا دوراً مفيداً جداً، مثل برامج تحويل النص المكتوب إلى صوتي والتطبيقات التعليمية.
ومن يدري، لو كانت مثل هذه الوسائل متاحة على أيام أينشتاين أو تشرشل ما هي درجة الابتكار والقيادة والتفرد التي كان يمكن لأمثالهما بلوغها؟