بعد أيام تُعقد القمة العربية المنتظرة في الجزائر، التي أُعطيت اسماً مغرياً «قمة لمّ الشمل»، بعد عدد من التسويفات في التوقيت لأسباب مختلفة، وقد اجتهدت الدبلوماسية الجزائرية في عقد القمة بالتمهيد لما اصطُلح عليه بـ«المصالحة الفلسطينية». لا يستطيع المراقب أن يجزم إن كان الدافع «حسن النية»، أو أن الدبلوماسية الجزائرية لم تطلع بما فيه الكفاية على المحاولات الكثيرة لجمع القيادات الفلسطينية في السابق، أو لم يجرِ تحليل واقعي لطبيعة الخلاف بين «القيادات» والطابع المصلحي والزعامي الكامن وراء الاختلاف!
الافتراض أنه رغبة طيبة من أرض المليون شهيد أن تأخذ القيادات الفلسطينية في ضوء المتغيرات العالمية والدولية، خطوات جادة في «رصّ الصفوف»، والتنازل عن الامتيازات، وتغليب المصالح المرسلة للشعب الفلسطيني على الآيديولوجيا والتربح منها، إلا أن تاريخ «المصالحات» على الورق لا ينبئ بأية إيجابية.
للتذكر فقط، هناك تسعة اتفاقات مصالحات فلسطينية، والأخير في الجزائر هو العاشر فقط في العشرين سنة الماضية، كلها اتفاق على نصوص هنا، ويتم مسحها بعد أيام قليلة من هناك، ويبدو أن الأمر هو وجود «سنروم فلسطيني» بالغ التأثير في كل التنظيمات، اسمه «التكاذب»، ليس على النفس فقط، ولكن على الآخرين أيضاً. وهو دليل صارم على أن تلك القيادات بشمولها تتصرف على أن القضية برمتها هي «مركب للتزعم» لا أكثر، وإن كان ممكناً وسيلة للترفه وجمع المال أيضاً! كلام يبدو قاسياً، ولكن لنستعرض بسرعة التسعة اتفاقات بين الفصائل، وفضاءها الجغرافي، للتذكير بالمسيرة التي ربما لم تتوفر للدبلوماسية الجزائرية معلومات واضحة عنها:
الأول: اتفاق مكة في فبراير (شباط) 2007 بجهد بُذل من المملكة العربية السعودية من أجل توحيد القوى السياسية الفلسطينية (وهو هدف لا يمكن تحقيق أي تقدم في القضية من دونه)، ووقف الزعماء أمام الكعبة وأقسموا على توحيد الصف ونبذ الفرقة في مكان مقدس للجميع، وبعد أن حصل الفرقاء على ترضية لـ«جهدهم الوطني الخارق»، سرعان ما نُقض العهد بعد أيام قلائل من عودة الوفود إلى مقارها الدافئة!
الثاني: ما عُرف بالورقة المصرية في 15 سبتمبر (أيلول) 2009 عشية «الهزة الكبرى» في المنطقة، وبعد جهد بذلته الإدارة المصرية في ذلك الوقت لضبط الفرقة والوصول إلى حد أدنى من التفاهم، ما لبثت تلك الورقة أن نُسفت بعد تغيرات 2010 – 2011؛ إذ اعتقد كل فريق أن تباشير تحرير القدس قد ظهرت وسوف تصب لصالحه، رغم أن تلك الهزة التي عُرفت بـ«ربيع العرب» لم يكن بين شعاراتها «تحرير القدس».
أما الاتفاق الثالث، وهو النابع من تلك الفكرة الخطأ؛ أن تغيير بعض الأنظمة العربية يقرب من التحرير، فعُقد من جديد في القاهرة في يناير (كانون الثاني) 2011 في وسط حمأة صعود النفوذ الإخواني في مصر، وكالعادة التي درجت عليها القيادات؛ اتفاق ومصالحة وتقبيل أيضاً، سرعان ما نسي الجميع ذلك الاتفاق. وأما الرابع، فقد كان في الدوحة في فبراير 2012، وظن الجميع أن ذلك هو الاتفاق النهائي؛ لما تحمله الدوحة من ثقل معنوي لفصيل وازن من الجماعات «المقاومة»، ولكن عادت حليمة كما تعودت إلى عادتها القديمة! وأما الخامس، فقد سُمي اتفاق الشاطئ في أبريل (نيسان) 2014، هذه المرة في الأرض الفلسطينية (غزة)، وأعلنت فيه كل من «فتح» و«حماس»، «إنهاء الانقسام»! وتم التصوير بتشابك الأيدي والابتسامات العريضة بين أصحاب «الكرافات» وأصحاب «الياقات المفتوحة»! وبقيت الملفات بعد الاجتماع ذاك والإعلان العاطفي تراوح مكانها! ومن جديد يعود اللقاء إلى القاهرة، بعد مخاض القاهرة الطويل مع بقايا «الإخوان»؛ ذلك هو الاتفاق السادس في أكتوبر (تشرين الأول) 2017، وكما كان في المرات السابقة «اتفاقاً على ورق». وأما السابع، فقد انتقل إلى الحليف المستجد؛ إلى موسكو في فبراير 2019، والثامن عاد إلى بيروت في سبتمبر 2020، ثم انتقل الاتفاق التاسع إلى حضن حليف آخر، هذه المرة إسطنبول، في آخر سبتمبر 2020.
أما الأخير العاشر، فهو في الجزائر أكتوبر 2022! وقد صرح بعض من وقّع على الاتفاق الأخير بأنه «ثابت»؛ لأنه وُقّع «في أرض الشهداء»، إلا أن النتيجة كما هو متوقع صفرية!
أمام تلك المسيرة المثيرة لدى البعض للهزء، ولدى آخرين للاشمئزاز، وطرف ثالث للأسى، تساءل جزء من الجسم الفلسطيني على الأرض، ليس متى تنتهي تلك الفرقة القاتلة، ولكن أي دولة أو عاصمة سوف تستقبل اللقاء الحادي عشر، من أجل أن يتكاذب الفرقاء على بعضهم! كل ذلك من دون أدنى تفسير أو تبرير لكل تلك التجمعات والصور والبيانات الزاعقة، أمام معاناة الجسم الفلسطيني الشعبي الذي يعاني العوز والحرمان في غزة، والحصار الخانق في الضفة، وينقل لنا الإعلام يومياً بلا هوادة استشهاد المقاومين فرادى على أرضهم!
الدبلوماسية الجزائرية لديها كل الحق عندما تصل إلى فكرة أصبحت حجر أساس في كل حركات مقاومة، وهي وحدة الحركة؛ تلك تجربة «جبهة التحرير الوطني» الجزائرية، وتجارب كل الحركات المماثلة، إلا أن القيادات الفلسطينية ترى أنها مختلفة. فبعد قطيعة دامت عشر سنوات مع النظام السوري الذي لم يحرر شبراً واحداً، ولكنه «استعبد شعباً كاملاً»، نجد من جديد ذوي الياقات المفتوحة من «حماس» يذهبون زلفى في رحاب نظام لم يتوانَ في قتل شعبه من أجل تحرير شعبهم! وآخرون ينضوون تحت لحاف طهران من أجل «تحريرهم» اللفظي، وهي تقتل المئات من أفراد شعبها العزل!
إذا كانت الفُرقة خطأ عربياً مشاهَداً، فهي في الحال الفلسطيني خطيئة لا تُغتفر، وهدف يُرجى، ولكنه لا يتحقق؛ لأن الزعامة أفضل كثيراً من الوطن، وما دام ذلك هو الممارَس، فلن تُجدي وساطة جزائرية ولا غيرها، وسوف يبقى الحال كما هو عليه، ولا عزاء لأصحاب النيّات الحسنة!
آخر الكلام:
الخلاف ظاهرة عربية سياسية - ثقافية... هو متوفر في السودان واليمن والعراق وسوريا ولبنان وليبيا... وهو ليس خلافاً في الاجتهاد؛ هو اتفاق على وأد الوطن!