«الخوف» كعنصر مشترك ومسكوت عنه في منطقتنا

منذ 9 أشهر 151

تكمن خلفيّة الواقع المأساويّ في غزّة في عقود من الاحتلال والقهر والصراع على الأرض والمظلوميّة، ولكنْ أيضاً في عناصر أخرى تأدّت عن الاحتلال ومقاومته بقدر ما كيَّفَتْهما. والخوف، بين تلك العناصر، أحد مفاتيح الوضع البائس وتفاقُمه، ليس فقط في مسرحه الغزّاويّ الأكبر، بل أيضاً في بلدان ومناطق عدّة من الشرق الأوسط. يقال هذا علماً بأنّ مُفردة الخوف نادراً ما استُخدمت لفهم ما يجري، فلم تحظَ بالأهميّة التحليليّة التي حظيت بها مفردات الصراع الأخرى.

والحال أنّ تجاهل الخوف، والتجاهلُ مشترك بين المتحاربين، تسنده ثقافات ذكوريّة، قوميّة ودينيّة، لدى الأطراف جميعاً. فالخائف لا يُظهر خوفه، وحتّى حين يقدّم نفسه كضحيّة أوحد، يكون عليه أن يدمج هذه الصورة بصورة القوّة. فإذا صحّ مثلاً أنّ الفلسطينيّين يخافون الآلة العسكريّة الإسرائيليّة التي مارست وتمارس قتلهم، إلاّ أنّهم يؤكّدون قوّتهم بإصرارهم على الصمود وبدعم يأتيهم من العرب والمسلمين والحلفاء. أمّا امتلاكهم الحقّ ونضالهم لأجله فكفيلان بأن يضمنا النصر لهم. وإذا صحّ أنّ الإسرائيليّين المحمّلين بذاكرة الهولوكوست والبوغرومات يخافون محيطاً يعتبرونه مُعادياً، إلاّ أنهم متأكّدون من أن النصر حليفهم بفعل جيشهم القويّ وتحالفاتهم الدوليّة وزعمهم امتلاك الحقّ.

ومن يعش في الشرق الأوسط يدرك معنى الخوف الذي تتبادله جماعاته، وكيف أنّ لكلٍّ منها تاريخاً يكاد يكون ملحميّاً ترصّعه المعارك وأعمال الطرد والتهجير. لكنّ الفكر السياسيّ، في المقابل، يُظهر حجم التحايُل على الخوف واستبداله لفظيّاً بمزاعم القوّة.

ومن حقّ الفلسطينيّين كما الإسرائيليّين أن يخافوا. فالفلسطينيّون الذين خسروا منذ 1948 إمكانيّة أن تكون لهم دولة في محيط كانت جميع دوله تنشأ أو تستقلّ، يخافون فعلاً أعمال جيش شرس ومتقدّم تقنيّاً سبق أن أنزل هزائم عدّة بجيوش عربيّة كان يُعتقد أنّها قويّة، وهذا قبل أن يصبح المستوطنون قوّة مسلّحة إضافيّة تتسبّب بإخافتهم وبقضم أرضهم. وحين نتذكّر سهولة لجوء الإسرائيليّين المهجوسين بالأمن إلى العنف ردّاً على أدنى تحدٍ فلسطينيّ، وسهولة انقلاب ردّهم إلى عقاب جماعيّ، ندرك جوانب من هذا الخوف. وبدوره يعجّ التاريخ الفلسطينيّ الحديث بأسباب الخوف، وفي عدادها الطرد واللجوء وظروف الحياة والعمل الصعبة، خصوصاً لمن انتهى الأمر بهم إلى العيش في مخيّمات، ومن ثمّ الاضطرار الى الإقامة في البلدان المجاورة لفلسطين وسط جماعات قد تكون مُصابة هي الأخرى بالمخاوف الديموغرافيّة.

أما الإسرائيليّون المسكونون بتجاربهم الأوروبيّة المؤلمة، والذين تؤرّقهم هواجس تِكرارها، فيجدون أنفسهم أقلّيّة مختلفة وغير محبوبة في منطقتها. وعلناً أو ضمناً يتصرّف معظمهم وفق منطق يقول إن السلام والتطبيع ليسا ضمانة كافية ضدّ الكراهية والرفض. فالصلح مع مصر الذي يعود إلى 1978 لم يؤسّس سوى «سلام بارد»، والشيء نفسه يقال عن صلح آخر مع الأردن، انقضى عليه ثلاثون عاماً.

وما من شيء يضاعف الخوف كتزايُد التمسّك بالهويّات وما ترتّبه من نبش في المواضي. ونعلم أن العقود الأخيرة جعلت المسلم أكثر إسلاماً واليهوديّ أكثر يهوديّة، فغدا بناء الجسور أصعب من أي وقت، وهذا لا تذلّله المصالحات الديبلوماسيّة الفوقيّة بين الحكومات.

وفي المشرق لا يوجد نموذج واحد يقي الخائف خوفه، خصوصاً وقد انهار النموذج اللبنانيّ الذي غالباً ما وُصف بأنّه حاضنة لتعايش إسلاميّ مسيحيّ. ومؤخّراً شهدنا ثورات شعبيّة تفسّخ بعضها إلى حروب طائفيّة وإثنيّة، وموجات لجوء مليونيّ، كما نشأت «داعش» وكانت محنة الإيزيديّين وسواهم ممّن خضعوا لحكمها. وبينما تبقى مشكلة الظلم الكرديّ المديد والعابر للحدود بلا حلّ، وتمضي تركيّا في امتناعها عن الاعتذار للأرمن، تقوى الدعوات إلى الفيدرالية، أو التقسيم، وتشتدّ بين مسيحيّي لبنان.

ويصعب القفز هنا فوق الدور الكبير لثورة إيران التي وفّرت العبور الأمتن إلى زمن الهويّات المغلقة. وهذا فيما الاسمان الأكثر ارتباطاً بالسلام، أنور السادات واسحق رابين، انتهى أمرهما مقتولين على يدي متطرّفين من بلديهما. أمّا ياسر عرفات الذي وجّه له الإسرائيليّون أكثر من إهانة مباشرة، فبعد وفاته استولت «حماس» على غزّة وطردت منها السلطة التي أنشأها.

والخوف ما يفسّر الهوس الأمنيّ الإسرائيليّ والرفض القاطع لعودة الفلسطينيّين وقيام دولة واحدة، خصوصاً أنّ ما من مسافة جغرافيّة تفصلهم عن الفلسطينيّين كالتي تفصل الجزائريّين عن فرنسا والأنغوليّين عن البرتغال. والإسرائيليّون، في النهاية، لا يُبدون أيّ استعداد لركوب مغامرة السلام، والسلامُ يبقى مغامرة بمعنى ما.

كذلك لا يُطمئن الفلسطينيّين أنّ المتعاطفين الإسرائيليين مع حقّهم أضعف من أن يؤثّروا في مزاج دولتهم وسياستها. فبعدما كان «معسكر السلام» ناشطاً وقويّاً، ومعه مبدأ الانسحاب من الأراضي المحتلّة، تفكّك هذا المعسكر وضمر. وجاء الانسحابان من لبنان وغزّة في 2000 و2005 ليقدّما حججاً للقائلين بأنّ الانسحاب لا يأتي بالسلام، وهذا قبل استيلاء «حماس»، التي لا تعترف أصلاً بإسرائيل وبأوسلو، على غزّة.

والخائف لا يُطمئن خائفاً آخر بل يُخيفه، متوهّماً أنّه بهذا يطرد خوفه. وهذا ما ضاعفته مئات المرّات «طوفان الأقصى» والعقاب الجماعيّ الإسرائيليّ.

وأغلب الظنّ أنّ الخوف ومحاولة طرده عبر إخافة الآخر سيتحوّل إلى نهج في منطقتنا، ما لم يحضر طرف ثالث يكون قويّاً وقادراً على فرض تسوية ممكنة تطمئن وحدها طرفين خائفين.