الخوارزمي... قصة الخوارزميات والرجل الرقمي

منذ 1 سنة 119

يعتقد عديد من المعاصرين للحقبة الرقمية التي نعيشها اليوم أن الخوارزمي، الذي يعد من أوائل علماء الرياضيات المسلمين، واحد من نقاط الوصل الأهم التي تربط اكتشافات اليوم بأسسها الأولى التي طرحت يوماً كقاعدة متينة لتبنى عليها أفكار مبتكرة تؤسس لاختراعات جديدة.

وعلى رغم ذلك فإن قلة من يعرفون مدى أهمية ما تركه للعالم أجمع هذا العالم الذي أسهمت أعماله بدور يعتقد أنه الأكبر في تطوير رياضيات عصره، ومن هنا يكفي أن نعلم أهمية الرياضيات ودورها في العلوم كافة، لكي ندرك أهمية ما أتى به هذا الرجل، فمن هو الخوارزمي؟ وكيف امتد منهجه ليسهم في تطوير علوم الحاسوب في ما بعد؟

حياة غامضة

لا يعرف على وجه الدقة تاريخ ولادة ووفاة الخوارزمي، فلم يصلنا عنه إلا القليل من المعلومات، وكل ما يقدم في تحديد زمن حياة الخوارزمي مبني على التقديرات الإجمالية والاجتهادات الشخصية بالاعتماد على الأشخاص والأحداث التي رافقت بعض قصصه، ويعد كتاب "الفهرست" (تأليف عام 987) المرجع الأول للتعرف على الخوارزمي، والذي أخبرنا فيه ابن النديم بأن "اسمه محمد بن موسى، وأصله من خوارزم، وكان منقطعاً إلى خزانة الحكمة للمأمون، وهو من أصحاب علوم الهيئة، وكان الناس قبل الرصد وبعده يعولون على زيجيه الأول والثاني "جداول فلكية" ويعرفان بـ"السند هند"، وله من الكتب، إضافة إلى "كتاب الزيج" النسختين الأولى والثانية، كتاب "الرخامة" وكتاب "العمل بالأسطرلابات" وكتاب "عمل الأسطرلاب" وكتاب "التاريخ""، لكن لم يرد في كتاب ابن النديم ذكر لأربعة كتب أخرى ألفها الخوارزمي، وهي كتاب "الحساب" وكتاب "الجبر" وكتاب "في تقويم البلدان" (شرح فيه آراء بطليموس) وكتاب "الرابع" وجمع بين الحساب والهندسة والموسيقى والفلك.

بيت الحكمة

ومما وصلنا من حياته يمكننا القول إنه ولد في مكان ما في آسيا الوسطى، وانضم في القرن التاسع إلى بيت الحكمة في بغداد في زمن الخليفة العباسي المأمون، حيث تجمع العلماء من جميع أنحاء العالم ليترجموا ويدرسوا المخطوطات القديمة في العلوم والرياضيات والطب والتاريخ والفلسفة وغيرها.

والأكيد أن عمله في بيت الحكمة أسهم في توسيع نطاق دوره واضطلاعه بمهام أوسع، إذ كان مضطلعاً بكل من الحساب والجغرافيا والفلك، وكان وحداً من الذين كلفهم المأمون بقياس درجة من درجات محيط الكرة الأرضية، وقام بتحسين خريطة العالم الشهيرة لبطليموس، حيث سجل خطوط الطول والعرض لآلاف المدن وأنتج أنظمة تقويم وحساب جديدة لتتبع حركة الكواكب والشمس والقمر.

والأكيد أن الخوارزمي أسس دوره على أفكار قديمة، لكنه اعتمد عليها ليضع مناهج جديدة، فقام بذلك بما هو أكثر من مجرد ترجمة الكتب القديمة، إذ مزج وطور المفاهيم والأعمال القديمة للعلماء المصريين والبابليين واليونانيين والرومان والهندوس.

سير خوارزمية

ذكر علماء كثر الخوارزمي في كتبهم، أمثال المسعودي والبيروني وغيرهم، وبعضهم شرح مؤلفاته، وذكر ابن خلدون أن أول من كتب في علم الجبر كان عبدالله الخوارزمي ثم جاء بعده أبو كامل بن أسلم، وبدوره ذكر "القزويني" أن الخوارزمي كان أول من ترجم علم الجبر للمسلمين، وهذا يدل على مقدرته العلمية وشهرته بين المسلمين في عصره، أما إذا أردنا الحديث عن أثره خارج النطاق الإسلامي، فيكفي التدليل على أن كلمة "الخوارزمية" algorithm، أشهر الكلمات التي ترد وتستخدم اليوم، والتي دخلت معاجم أغلب اللغات العالم، قد اشتقت من اسمه، وهي تدل على الطريقة الوضعية في حل المسائل، وتتضمن سلسلة من الخطوات المرتبة المتسلسلة التي تتبع لحل مشكلة ما أو للوصول لهدف معين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكانت الأعداد إلى أوائل القرن الـ18 تسمى باللاتينية "الجورزمس" Algorismus، كما تستخدم الكلمة الإسبانية guarismo للدلالة على الأرقام، وبعد أربعمئة عام من تأليف الخوارزمي لكتبه قدم عالم الرياضيات الإيطالي فيبوناتشي نظام العد الهندي (التي يستخدمه العرب الآن) إلى إيطاليا، وفي غضون قرنين من الزمان أصبحت هذه الأرقام تستخدم في جميع أنحاء أوروبا.

الجبر والمقابلة

وعلى رغم ما قدمه الخوارزمي من مساهمات مهمة في الجغرافيا وعلم الفلك والهندسة وأنظمة التقويم، فإن أهم مساهماته كانت في الرياضيات، فقد اشتهر بإحداث ثورة في الجبر والحساب، إذ قام بتحسين التقنيات التي نستخدمها لحل المسائل الجبرية، وأكسبه كتابه "الجبر والمقابلة" لقب "أبو الجبر"، لما قدم فيه من تعليمات مفصلة لحل المعادلات الخطية والتربيعية، ليتكرر استخدام معادلاته عبر التاريخ وترد في جميع المؤلفات الجبرية منذ عصره إلى أوائل العصر الحديث، وبعض هذه المعادلات لا تزال ترد في كتب جبر إلى يومنا هذا، فضلاً عن أن اسم علم الجبر مشتق في جميع لغات العالم من الكلمة العربية التي استخدمها الخوارزمي "الجبر"، وتضم مكتبة بودلين في "أكسفورد" مخطوطاً محفوظاً لكتاب "الجبر والمقابلة"، الذي كتب في القاهرة عام 743 هجرية، بعد وفاة الخوارزمي بنحو 500 عام.

كما أن عمل الخوارزمي في الرياضيات أحدث ثورة في مجالات أخرى، أو جعلها على الأقل ممكنة، بما في ذلك البصريات والهندسة والكيمياء وعلم الفلك والجغرافيا والحوسبة وغير ذلك.

في النهاية يمكن القول إن الخوارزمي أحدث ثورة في كيفية تعاملنا مع الرياضيات وتفاعلنا معها وطريقة استخدامها، وقدم إضافة إلى المعرفة الإنسانية ككل، ليعد اليوم من الشخصيات التي يتمحور حولها شكل العصر الرقمي الذي نعيشه.