الخروج الكبير وبناء الدولة

منذ 1 سنة 163

لافتة، حالة الخروج الآيديولوجي الذي نشهده اليوم في المملكة العربية السعودية وفي دولة الإمارات العربية المتحدة بدرجاته المتفاوتة، والذي أراه انطلاقة موفقة لبناء الدولة الحديثة في محيط عربي كان بلاؤه الأول هو التلوث الآيديولوجي ضمن بلاءات أخرى، فهل تخلُّص الدولتين من براثن الآيديولوجية كافياً لبناء دولة حديثة بالمعنى الغربي للحداثة؟ ولكن قبل الاستفاضة في الفكرة التي قد تطول لأكثر من مقال: ما هو الخروج الآيديولوجي أولاً؟ وهل الخروج الآيديولوجي والقطيعة المكانية والفكرية هي الحل الأمثل إذا أردنا بناء كيان مختلف عن سابقه؟ وهل هناك أمثلة تاريخية على هذا الخروج؟ وأي خروج في التاريخ كان ناجحاً وأي خروج كان فاشلاً؟ وما علاقة ذلك بالمثالين اللذين طرحتهما في المقدمة؟
ثلاث من لحظات الخروج، التي يمكن استيعابها لدى أهلنا بحكم الثقافة، والتي قد تقربنا من فهم معنى الخروج الآيديولوجي الذي أقصده هي: أولاً الخروج الأخناتوني من طيبة إلى تل العمارنة 1346 قبل الميلاد إلى 1370 قبل الميلاد، أما الخروج الثاني فهو الخروج الموسوي من مصر، وهو خروج غير محدد التاريخ، وهناك أطروحات تخلط بين أخناتون وسيدنا موسى ليس هنا محلها، والخروج الثالث هو هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة (622 ميلادية) وكل هذه الهجرات كانت قطيعة مكانية وفكرية أو آيديولوجية، وهذا سبب أساسي في إقامة دولة المدينة في هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما هجرة أخناتون التي كان فيها تماس آيديولوجي مع عبادة آمون، فدولته لم تستمر أكثر من بضعة وعشرين عاماً، أما الخروج الموسوي فكان محفوفاً بالتيه، وذلك لعدم تبلور الرؤية.
القطيعة المعرفية مع الماضي والقطيعة المكانية كانتا سبباً أساسياً في نجاح المشروع الجديد، والقطيعة المعرفية هنا لا تعني الإلغاء، بقدر ما هي تخفيف أحمال لثقل فكري لم يكن مفيداً، بل أصبح عبئاً لا بد من التخلص منه.
الإخوة في الإمارات خرجوا من مجموعة من الأنساق والسرديات التي تعدُّ عبئاً على الدول الصغيرة سواء كانت آيديولوجية أو حتى كانت تراثاً قديماً لا يفيد كثيراً في بناء الدول الحديثة. انتقل الإماراتيون بقيادة الشيخ محمد بن زايد من الآيديولوجيا التقليدية إلى حالة السياسة العملية practical politics أو السياسة النفعية التي تعود على الدولة والمواطن بفوائد عملية، دونما الإغراق في إرضاء الآيديولوجيا التقليدية أو الدينية، ولذلك نرى الإمارات الحديثة دولة تسافر في الزمن خفيفة دونما أعباء الماضي، وربما لأن الإمارات المتحدة دولة حديثة التكوين فأعباؤها الماضوية قليلة، وذلك حظ عظيم. خرج الإماراتيون من الآيديولوجيا فبنوا دولة تقترب من الحداثة وإذا ما استمر الخروج دونما انتكاسة أخناتونية فبشرهم بدولة حديثة ولا ريب.
أما التجربة السعودية في عهد الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، الرئيس التنفيذي لعملية الخروج من الآيديولوجيا، فهي واحدة من أهم تجارب التحديث في منطقتنا، التي تحتاج إلى متابعة ودراسة مستمرة.
كما ذكرت في مقال سابق، لم تعد المملكة تتكئ على عكاز الشرعية الدينية، والتزمت بالشرعية التاريخية للحكم من خلال شرعية التأسيس. وبعد انطلاق قطار التغيير في المملكة أدرك السعوديون ومن معهم أن عكاز الشرعية الدينية لم يكن مختلفاً عن عصا سليمان التي أكلتها أرَضة الأرض (فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته). كان عكاز الدين بمعناه الصحوي متآكلاً، ولم يعلم الكثيرون ذلك إلا عندما انطلق قطار التغيير، الذي كشف أن قوى التخلف ليس لديها التأييد الذي ظنه البعض. الآيديولوجيا المخيفة لم تكن أكثر من وهم نسجه البعض حول الدولة والمجتمع. مجرد شرنقة كاذبة كان الخروج منها أسهل مما كنا نتصور، فقط كان الأمر يحتاج إلى ملك حكيم وولي عهد شجاع يخبر الناس بأن هذا كان وهماً لا حقيقة.
أحياناً يظن بعضنا أن الرجل القوي عبء على الدولة، ولكن التاريخ البشري مليء بالأحداث التي تخبرنا أن القائد القوي القادر على الخروج ضروري للتغيير وما هذا بتاريخنا فقط، فالتاريخ الأوروبي يخبرنا أن الأباطرة الأقوياء أو الملوك هم من استطاعوا الخروج من عباءة الكنيسة وهم من فصلوا الدين عن الدولة وكان آخرهم هنري الثامن في بريطانيا في ثلاثينات القرن العشرين. بالطبع كانت هناك أفكار الإصلاح من القديس أوغستين حتى مارتن لوثر وجون لوك مونتسكيو وجان جاك روسو وآخرين. الفكرة هي أن الرجل القوي هو الذي استطاع أن يتخذ القرار ليس فقط بتخليه عن الكنيسة كعكاز داعم للحكم، بل تخلى عن الطبقة الإقطاعية أيضاً كعكاز وهمي آخر، والمساوي للتخلي عن طبقة رجال الأعمال أو الأعيان في الحالة السعودية وما كان الريتز إلا رمزاً لحالة التخلي هذه، فشرعية الدولة شرعية تاريخية وشرعية إنجاز.
الخروج من براثن الآيديولوجيا، حقيقية كانت أو وهمية، هي بمثابة نقطة التحول في التغير الكبير، الذي حدث في المملكة العربية السعودية في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز.
بينما تقف المملكة العربية السعودية ومعها دولة الإمارات كنماذج للخروج من ضيق الآيديولوجيا إلى رحابة العمل، والبحث عن رخاء المجتمعات، بقيت دول أخرى في حالتها الرخوة، التي تحاول الخروج أحياناً ثم تغازل الآيديولوجيا والأفكار الماضوية أحياناً أخرى سواء كانت هذه الماضوية دينية أو دنيوية، بقيت الدول الرخوة تثبت عيونها على المرآة العاكسة للسيارة دونما رؤية الطريق، فارتطمت بأقرب حائط في بعض الحالات. سائق السيارة يحتاج أحياناً إلى النظر إلى الماضي في المرآة العاكسة ليرى ما حوله وخلفه ولكن فقط للحظة ثم يركز كل الوقت على الطريق الذي أمامه.
العمارنة أو «أفق أتون»، كما كانت تعني قديماً كانت أفقاً، ولكن رؤية هذا الأفق لم تكن بالاتساع الذي يأخذها إلى ما بعد الثلاثين عاماً، وذلك لاشتباكها مع الماضي الآيديولوجي، أما التيه الموسوي في صحراء سيناء فلم يكن إلا خروجاً اضطرارياً لا يبحث إلى أفق أرحب، بل كان خروجاً مستعجلاً أدى إلى التيه الطويل.
وأنا أكتب المقال أكاد أسمع أصوات الدهماء، وهم يقولون وكيف تشبه ما يحدث بالهجرة النبوية أو الخروج الموسوي (في الشنطة كتاب دين!) دونما النظر إلى أخناتون وحالة العمارنة وحالات أخرى كثيرة في التاريخ الإنساني للخروج من الآيديولوجيا كأحد الحلول، التي تساعدنا على الخروج من مستنقعات آسنة ألفنا رائحتها، ولم تعد أنوفنا قادرة على تمييزها، رغم سماعنا لنقيق الضفادع فيها.
إن منطقتنا برمتها تحتاج إلى الخروج المباشر والواضح من وهم الآيديولوجيا ووهم دعائم الدولة الكاذبة من قبيلة وعشيرة إلى عالم الشرعية المؤسساتية، ولا يحدث هذا بتجديد الخطاب الديني والبقاء في الحالة الرخوة واللزوجة، يحدث هذا بالخروج الكبير وبالقطعة وبالقيادة الجريئة والشجاعة المسلحة بالرشد والعقلانية ليس بحثاً عن نموذج غربي مستورد، ولكن بحثاً عن نبتة يكتب لها الحياة في بيئتنا، نبتة تزهر وتتفتح وتثمر، لا مجرد أشجار زينة تتجلى فيما يعرف بشبه الدولة.