تتميز أزقة الحي اللاتيني في قلب باريس بتاريخ غني وتراث أكاديمي يتجسد في جامعة السوربون، ويعكس هذا الحي تنوعاً ثقافياً لا مثيل له، فيجتمع فيه الطلاب الجامعيون والمثقفون والسياح من مختلف أنحاء العالم، وتحوي شوارعه المتعرجة المليئة بالمكتبات الساحرة عدداً من المقاهي الضيقة والمطاعم التقليدية التي تعكس الثقافة الباريسية بكل جوانبها، كما تضيف الحدائق والساحات الجميلة جواً مميزاً على هذا الحي الساحر.
تتمتع مجموعة متنوعة من المكتبات المستقلة في قلب الحي اللاتيني بباريس بجاذبية فريدة تستقطب عشاق الكتب والفنون، وتعتبر وجهة مثالية للباحثين عن الثقافة والإبداع، وتقدم بعض هذه المكتبات منها "بولينيه" و"شكسبير أند كومباني" و"مانغا" و"لو بوكيه دو فورمو" أنشطة ثقافية متنوعة، حيث تستضيف ندوات أدبية ومعارض فنية وورش عمل إبداعية.
وتشكل هذه المكتبات منصة للمؤلفين المحليين والفنانين الناشئين لعرض أعمالهم والتواصل مع الجمهور، مما يسهم في إثراء المشهد الثقافي للحي اللاتيني وتعزيز تفاعله المجتمعي.
مع تزايد النشاط الثقافي، تظهر تحديات جديدة تتمثل في ثورة التجارة الإلكترونية وتغيير أنماط التسوق التقليدية، مما يضع الضغوط الاقتصادية على المكتبات ويهدد بإغلاق بعضها في حين يستمر البعض الآخر في معركته للبقاء على قيد الحياة.
ومنذ عام 2000 شهدت باريس انخفاضاً في عدد متاجر الكتب بنسبة تقارب النصف، إذ أغلق نحو 460 متجراً، وفقاً لاستطلاع أجري من قبل الوكالة الحضرية غير الربحية في باريس.
السيطرة الاحتكارية
تتعرض المكتبات المحلية التقليدية لتحديات كبيرة نتيجة للسيطرة الاحتكارية لشركات مثل "أمازون" التي تقدم سياسات تسعير تنافسية وخفوضات كبيرة على الكتب، مما يهدد استمراريتها.
وتصبح المنافسة صعبة بالنسبة إلى المكتبات المستقلة عندما تعرض "أمازون" الكتب بأسعار أقل من كلف الإنتاج، مما يؤدي إلى تكبدها مشكلات مالية كبيرة، وتتزايد المخاوف في شأن سيطرتها الاحتكارية على سوق الكتب الإلكترونية والمطبوعة، إذ يعتمد عدد من الناشرين والمؤلفين على "أمازون" لبيع منتجاتهم.
ونتيجة لتحديات المنافسة في الأسعار والضغط على الربحية، يجد كثير من الناشرين أنفسهم مضطرين إلى التنازل عن جزء كبير من الأرباح لمصلحة "أمازون"، مما يؤثر في قدرتهم على دعم المكتبات المستقلة والأسواق الثقافية المحلية.
تلبية لرغبتها في الحفاظ على الهوية الأدبية الرائعة لمدينة باريس، استحوذت السلطات مسبقاً على بعض الأعمال التجارية الأكثر عرضة للخطر، كجزء من تجربة تمتد على مدى ثلاثة أعوام بهدف منع تأثيرات التعرض للعولمة في سحر المنطقة.
وتهدف الخطوة إلى دعم وحماية المكتبات المستقلة وتعزيز دورها الحيوي في تثقيف التنوع الثقافي والاجتماعي للمدينة، والحفاظ على جاذبية الحي الفريد وتعزيز تراثه الثقافي الغني في ظل التحديات الحديثة.
وتحدد القوانين الفرنسية سعر الكتب الجديدة، فيدفع القراء السعر نفسه سواء اشتروها عبر الإنترنت أو من سلسلة متاجر أو مكتبة كتب مستقلة صغيرة، وأسهمت هذه الإجراءات في الحفاظ على 3500 مكتبة في فرنسا، والعام الماضي فرضت البلاد على شركة "أمازون" رسوم توصيل بحد أدنى قدرها ثلاثة يوروهات للكتب المطلوبة عبر الإنترنت، في محاولة لجعل التجار المحليين أكثر جاذبية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جهته، أكد ألكسندر وهو مدير مكتبة "مانغا" الفرنسية في الحي اللاتيني بباريس، أهمية المكتبات على رغم التحديات التي تواجهها نتيجة لممارسات "أمازون"، نافياً وجود منافسة مباشرة بينها والمكتبات المحلية.
وأشار إلى أن المكتبات تتمتع بميزات فريدة لا تتوافر على منصة "أمازون" مثل تجربة التسوق في المتجر واكتشاف الكتب بصورة شخصية والاستفادة من النصائح المتخصصة التي تقدمها.
وقال "نحن نسعى دائماً في متجرنا إلى تقديم العروض الترويجية والحفاظ على علاقات وثيقة مع عملائنا، هناك فئات من العملاء يقدرون ليس فقط عملية الشراء، بل أيضاً الترحيب الدافئ الذي نقدمه والنصائح التي نقدمها واكتشاف الكتب الجديدة".
وفي ما يتعلق بآراء العملاء، قال دميان وهو صاحب مكتبة إن "الكتب جزء أساس من حياتنا، والمكتبات هي الملاذ الذي نحتاج إليه، ونحن بحاجة إلى أن نكون في علاقة مباشرة مع بائعي الكتب لنستمتع بسحر المكان"، وأضاف أن مجرد تصفح الرفوف وصفحات الكتب تجربة لا تُقاوم، ولا يمكن تكرارها عبر الشبكة العنكبوتية، وهذا الجانب الإنساني والحسي للمكتبات المستقلة يظل عنصراً حاسماً بالنسبة إلى كثير من القراء".
دميان يرى أن المنافسة تشكل خطراً نسبياً على مستقبل المكتبات ولكن ليس بصورة كبيرة لأن القراء يبحثون دائماً عن النصائح التي يمكن العثور عليها في المكتبات والتي لا يمكن إيجادها على موقع "أمازون".
في السياق نفسه، علقت مندوبة جمعية مكتبات باريس إليسا بيرو قائلة "تواجه المكتبات اليوم تحديات كبيرة في ظل التجارة الإلكترونية، إذ أظهرت الدراسات المختلفة ارتفاعاً كبيراً في بيع الكتب عبر الإنترنت، وتبين أن المواقع كانت أكثر فاعلية ضمن المدن الكبيرة، ومع ذلك، فإن باريس تعتبر واحدة من أغنى المدن بالمكتبات والمتاجر الفعلية إذ تضم حوالى 300 مكتبة، مما يشكل تناقضاً ملحوظاً".
بيرو أكدت أن جمعية مكتبات باريس تعمل دائماً على الحفاظ على هوية المكتبات وضمان بقائها، لافتة إلى إنشاء أداة مشتركة للمكتبات تمكن المستخدمين من التحقق من توافر كتاب معين في إحدى مكتبات الشبكة، وحجزه أو طلبه.
وأضافت أن الموقع يضم حالياً 230 مكتبة عامة ومتخصصة في مجالات مثل الأدب واللغات الأجنبية والأدب الشبابي والفنون والعلوم الإنسانية، مع أكثر من 500000 عنوان متوافر و2500000 مجلد في المخزون.
نشاط مستقر
على رغم انخفاض حجم المبيعات، إلا أن إيرادات المكتبات في 2023 ظلت مستقرة مقارنة بالأعوام الماضية، فسجلت زيادة بنسبة 0.8 في المئة في إجمالي الإيرادات مقارنة بعام 2022، كما تبقى الإيرادات عام 2023 أعلى من مستوى النشاط قبل الأزمة الصحية بنسبة 9.2 في المئة.
ووفقاً لبيان النقابة الفرنسية للمكتبات، تواجه بعض المكتبات تحديات في النشاط، بخاصة تلك التي تحقق إيرادات أقل من مليون يورو (نحو1.08 مليون دولار) وتتزايد الكلف التشغيلية بصورة كبيرة، إذ يواجه عدد منها صعوبات في تغطية الارتفاع الكبير في الكلف.
هذه التحديات تأتي وسط زيادة ملحوظة في معدل التضخم، مما يؤثر سلباً في الوضع المالي للمكتبات التي تتعرض لما يُعرف بـ"تأثير المقص"، فيتمثل التحدي في استقرار متوسط الإيرادات والهوامش، نتيجة تجميد الحوافز التجارية من الناشرين والمحافظة على الخصومات المقدمة للجهات الحكومية، مع الزيادات في أسعار الكتب التي يقررها الناشرون والتي لا تزال أقل من معدل التضخم، بينما تتزايد الكلف بصورة كبيرة، بما في ذلك زيادة نسبتها 10 في المئة على كلف الأجور والنقل منذ 2021، وزيادة نسبتها 150 في المئة في فواتير الكهرباء ضمن المكتبات الكبيرة.
أمام هذا الواقع، يطرح السؤال حول فاعلية الجهود المبذولة في المحافظة على التراث الأدبي الغني لباريس، خصوصاً أن المكتبات المستقلة تعتبر جزءاً أساساً من تراث المدينة وتعبر عن التزامها بالمجتمعات المحلية وتاريخها الثقافي.