الحوار من أجل العيش المشترك

منذ 1 سنة 205

أضحى مفهوم الحوار بين الحضارات والثقافات من المفاهيم والموضوعات الأكثر تداولاً في السنين الأخيرة، بسبب غيوم الظلام اللامتناهية التي تغزو عصرنا الملبد بالصراعات السياسية والأزمات الاجتماعية والدينية والثقافية، ولما أخذه من تعاريف تجاوزت كثيراً دلالته المعجمية المعروفة، كما زاد من حدة الاعتداد به ضرورة الرجوع إليه كأسلوب لحل المشكلات الإقليمية والدولية وللتقارب بين الشعوب ولإصلاح ما شاب السياسات والأفكار من اعوجاج، وللالتزام بالأهداف التي تعزز القيم والمبادئ الإنسانية، التي هي القاسم المشترك بين جميع الحضارات والثقافات.

وكلنا نحلم ببناء الأسرة الإنسانية الواحدة وبالبيت المجتمعي المشترك وبالتسامح والتحالف والجمال، لكن الواقع يؤكد أن هناك 3 عوائق تجعل من مبادئ التعايش السلمي مسألة صعبة؛ فهناك فوارق اجتماعية وأزمات تجعل العيش الآمن لملايين البشر شيئاً بعيد المآل؛ كما أن هناك سياسات من صنع البشر تجعل صناعة الحاضر والمستقبل محفوفة بالمخاطر والويلات وتجعل المجتمعات يتقاسمها كثير من المخاوف؛ كما أن هناك سوابق معرفية تؤطر الأذهان وتوجه الواقع وسلوك الإنسان؛ وبالتالي فإنه لا بد من فتح هذه المنطقة ودخولها لاستكشافها وتنقيتها وإعادة ترتيبها.

ويمكن إعطاء عدة أمثلة لهاته الجوانب. فهناك أناس كثيرون يهاجرون سراً بدافع الضرورة بحثاً عن عيش أفضل أو هروباً من ويلات الحروب والفتن؛ كما أن هناك حقائق مؤلمة وأرقاماً مرعبة قدمتها تقارير الأمم المتحدة الأخيرة، بخصوص حركة المهاجرين السريين واللاجئين عبر البحر الأبيض المتوسط. وتشير هذه الأرقام إلى ارتفاع مأساوي في عدد الوفيات فاق 130 بالمائة، مقارنة بالسنوات الماضية، فأضحت المياه المتوسطية مقبرة للمهاجرين القادمين من إفريقيا والدول العربية والشرق الأوسط؛ ومشكلة الهجرة من المشكلات المستعصية، إذ تتداخل فيها عوامل السيادة والاقتصاد والاندماج واللجوء السياسي والانتخابات؛ ومن إفرازاتها صعود تيار القوميات في البلدان الأوروبية، وهو ما برز في فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا والدنمارك، وبلدان وسط أوروبا، دون نسيان القوانين الردعية التي تنتظر المهاجرين، والإسلاموفوبيا التي بدأت تطال الملايين من المسلمين.

كما أن العامل الآيديولوجي والثقافي يطغى عند البعض في تفسير بعض السياسات؛ ونحن نتذكر أن الرئيس الروسي فسّر الحرب في أوكرانيا بأنها تهدف إلى «تحرير أوكرانيا» من «النازيين الجدد وأنصارهم وآيديولوجيتهم».

ولا غرو أن الإصرار الممنوح للعامل الآيديولوجي والثقافي يساهم كآلية حرب مدمرة تحجب المسببات الأساسية للتوترات المتواجدة اليوم في كل القارات، وبالتالي فإنها تؤيد في الغالب توزيعاً أحادياً للمسؤوليات؛ «فأمراض» ثقافة الآخر تكفي لتفسير صعوبات التعايش معه.

كما أن هناك سياسات من صنع البشر تجعل النشاطات البشرية تتسبب في كوارث مناخية لم تعهدها البشرية من قبل. فالحرارة التي تعيشها أميركا وأوروبا وكثير من الدول العربية هاته الأيام لم تعهدها البشرية من قبل؛ وهي سترتفع بواقع 1.5 درجة مئوية، وستتكرر الموجات الحارة الشديدة كل 10 سنوات، وذلك بسبب الاحتباس الحراري العالمي، كما أن الجفاف وهطول الأمطار بغزارة سيصبحان أيضاً أكثر تواتراً.

ومع الحرب في أوكرانيا، ظهر للعالم، وبخاصة للأوروبيين، قيمة السلم والسلام، وقيمة بعض الدول المصدرة للقمح والغاز والبترول، وقيمة بعض المناطق الجغرافية كالبحر الأسود الذي يُعد شرياناً رئيساً لحركة السلع عند مفترق طرق أوروبا وآسيا.

كما أن سماح الشرطة السويدية لمتطرف في العاصمة أستوكهولم، أول أيام عيد الأضحى المبارك، بتمزيق نسخة من المصحف الشريف، وإضرام النار فيها، لا يمكن إلا التنديد به؛ وقد بحثت فوق حشائش وتحت حشائش الإعلانات الدولية لحقوق الإنسان، ما يمكن أن يمنح الصواب لقرار القرار القضائي السويدي الذي سمح لهاته الجريمة بدعوى حرية التعبير، فلم أجد شيئاً؛ وإنما هي في حقيقتها إساءة - في جملة إساءاتها - إلى حزمة القواعد الدولية في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة؛ ويمكن لكل متتبع أن يفهم أن مثل هاته الممارسات ذات الطابع الرسمي والمشجعة للكراهية، والمثيرة للمشاعر الدينية لا يمكنها إلا أن تخدم أجندات التطرُّف والإرهاب.

كما تكونت نظريات دولية حول الصراعات والحضارات، وتكونت مدارس سعت خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية للتأصيل العلمي لهاته المفاهيم، ولكن للأسف الشديد مال كثير من المنظرين عن جادة الصواب، عندما أشاروا إلى بعض الحضارات على أنها نقيض الحضارات المتحضرة، وأنها تحمل في ثناياها فيروسات تقوض مسائل التعايش بين الأمم والشعوب.

نفهم من خلال هاته الأمثلة أن العالم يعاني من أزمات كثيرة وصعبة، وأن الحوار الحضاري ضرورة قصوى، وهو يجب ألا يشمل فقط مسألة الديانات والثقافات كما هو متداول عند البعض، وإنما يجب أن يتناول ميادين سياسية واقتصادية واجتماعية وبيئية وفكرية؛ ولا يمكنه إلا أن يكون عالمياً وشاملاً لينتظم به ومعه التنوع البشري بكل أشكاله ومصالحه.

في زيارة قام بها مؤخراً الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جوزيب بوريل، للجامعة الأورومتوسطية بفاس، حيث دار الحديث عن «مسؤولياتنا الاستراتيجية في السياق الجيوسياسي الحالي»، وخرجنا بقناعة أنه يجب أن نحمل نظرة صحيحة عن الحاضر والمستقبل والإبداع المنشئ للسلم والسلام؛ فلو اكتفى الإنسان بعملية إضاءة الشمعة فقط، من دون النظر إلى البديل لما اهتدى إلى المصابيح الكهربائية ودخول الكهرباء في جميع مناحي الحياة؛ ولذلك أقول هنا إن الحوار العالمي يجب أن يكون ذكياً وينطلق من القواسم المشتركة التي تجمع بني البشر، ويبحث عن البدائل الإيجابية والمثمرة لكل الأزمات التي تحدثنا عنها حتى تنتظم به المفاهيم المشتركة، وتتوحد معه الغايات المشتركة، ويصان به المصير الإنساني المشترك في عالم تفيد تقديرات شعبة السكان التابعة للأمم المتحدة بأن عدد سكانه تخطى عتبة 8 مليارات نسمة؛ وتجاوز هذه العتبة الرمزية يعدّ فرصة للاحتفال بالتنوع والتطوّر، مع مراعاة المسؤولية المشتركة للبشرية للعيش في أمن وأمان وسلم وسلام.