الحمامات التقليدية في الجزائر... عصور من الراحة

منذ 10 أشهر 107

بين علاجها لأمراض عدة وارتفاع أسعار نظيرتها العصرية، عادت الحمامات الشعبية التقليدية لتأخذ مكانتها القديمة التي فقدتها في الجزائر لأسباب أبرزها المد الديني خلال الأزمة الأمنية التي شهدتها البلاد في التسعينيات.

وعلى رغم أنها جزء من ثقافة المجتمع، فإنها باتت تصارع من أجل البقاء في ظل محاولات إدخال تعديلات تمحو طابعها الأثري التقليدي، لا سيما أن الجهات الرسمية تسعى إلى إدماجها في سياق السياحة الحموية العلاجية.

في أعماق التاريخ

تعتبر الحمامات في الجزائر تراثاً مميزاً يمتد في أعماق التاريخ، وتبقى للشعبية منها خصوصية في المخيال الشعبي، فهي ليست مكاناً للاستحمام والترفيه فقط، وإنما ملتقى للزواج والحصول على عمل وأخذ الثأر أحياناً، كما أن للنميمة والغيبة أيضاً مكانة مرموقة في هذا الفضاء، ويحكي كل منها قصة ويوثق تاريخاً، وبعضها ما زالت جدرانها مشيدة بحجارة رومانية وتستخدم أنظمة قديمة لتصريف المياه.

والإقبال على الحمامات الشعبية ليس وليد اليوم، وإنما امتداد لمختلف الحضارة التي مرت على الجزائر، فالزائر يلمس الاختلاف في ما بينها، فحمام "ملوان" وحمام "ريغة" قرب الجزائر العاصمة يختلفان عن حمام "بوحنيفية" وحمام "الشيغر" غرب البلاد، وهي بدورها تختلف عن حمام "المسخوطين" وحمام "الصالحين" في الشرق، وأيضاً حمام "زلفانة" جنوب الجزائر، مما يجعل التنقل بين مختلف الحمامات ثقافة اعتادت عليها العائلات للاستكشاف والسياحة والاستحمام والعلاج.

أكثر من 200 منبع

بعد أن خفت بريقها بسبب الأزمة الأمنية التي عرفتها البلاد خلال التسعينيات، وكاد بعضها يمحى من الوجود بعد الاعتداءات التي تعرضت لها من الجماعات الإرهابية التي كانت ترى في الذهاب إلى الحمام "فعلاً حراماً"، لا سيما بالنسبة إلى النساء، فيما عانت أخرى خطر الإفلاس جراء عزوف الزبائن عن الذهاب إليها، عادت الحمامات التقليدية الموجودة بغالبيتها خارج المدن والمناطق الحضرية، وفي حين كانت حكراً على الرجال فإنها أصبحت تجلب إليها كل فئات المجتمع، خصوصاً العائلات والشباب من الجنسين، نظراً إلى أنها عرفت بعض الإضافات العصرية مثل قاعات التجميل والتدليك بمختلف الطرق وعلاج السمنة وتنقية الجلد وتحسين الدورة الدموية وغيرها من الخدمات التي مكنتها من جلب زبائن جدد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتضم الجزائر اليوم أكثر من 200 منبع حموي تحول بعضها إلى منشآت وفنادق عصرية استغلتها الدولة في مشاريع لتنشيط السياحة الداخلية، وبقيت أخرى على حالها التقليدية غير مستغلة بطريقة جيدة، بحسب وزارة السياحة.

ثقافة الاستحمام

في السياق، يقول أستاذ علم الاجتماع أحمد ضياف لـ"اندبندنت عربية" إن الإقبال الكبير على الحمامات أفرز تنافساً بين التقليدية والعصرية منها، وتفوقت الأولى بفضل الراحة التي تمنحها للوافدين من أجل الاستحمام والاسترخاء من دون أن تكلف كثيراً، فما زالت تطلب أثماناً تعتبر رمزية مقارنة بما تطلبه المنتجعات العصرية مقابل تقديم الخدمات نفسها.

ويضيف أن الحمامات التقليدية الشعبية تعتبر تحفة من الإرث المحلي الجزائري وقطعة معمارية لا تتجزأ من رقعة النسيج العمراني التي تشهد على النظام الاجتماعي الذي كان سائداً آنذاك.

ويواصل ضياف أن كثرة الحمامات وانتشارها في البلاد يكشف عن ثقافة الاستحمام التي ورثتها شعوب هذه المنطقة من الحضارات المتعاقبة عليها، كما أنها دليل على التطور الاجتماعي والاقتصادي للمدينة، مبرزاً أن الحمام كان بالنسبة إلى الرجال المكان الأمثل للقاء الأصدقاء وتبادل الآراء السياسية، إضافة إلى ما تقدمه من انتعاش في الصيف ودفء في الشتاء، وهم يرتادونه مرة أو مرتين في الأسبوع، ويبقون فيه من نصف ساعة إلى ساعة بعد الاستحمام وقبل المغادرة، وخلال ذلك يتم تناول القهوة أو الشاي.

حمام_زلفانة.jpg

أما النساء، يردف ضياف، فالأمر مختلف نوعاً ما، إذ بعدما كان خروجهن نادراً، لا سيما بالنسبة إلى الماكثات في البيت، تغير الوضع وأصبحت المرأة تذهب إلى الحمامات سواء للاستحمام أو الاستجمام والراحة أو للاغتسال استعداداً ليوم زفافها، لكن المتفق عليه هو أن ارتيادهن لهذه الأماكن لا يكون دورياً غير أنهن يقضين وقتاً أطول من الرجال، فهو المكان المفضل لهن من أجل الاجتماع، أو لتبادل الآراء، أو لنقل المعلومات والإشاعات، أو البحث عن عريس المستقبل، أو تحضير خطة لانتقام ما، أو التباهي أيضاً.

للحمام 7 غرف

بصفة عامة، يحوي الحمام سبع غرف، حيث نجد قاعة للانتظار وأخرى لتغيير الملابس وثالثة لحفظ الأمتعة ورابعة صغيرة توضع فيها مجوهرات العروس والأغراض الثمينة فقط، ثم "البيت الساخنة" للتعرق والتدليك، وبعد الخروج منها يتم التوجه إلى "البيت الباردة" وهي عبارة عن مساحة توجد بها فرش لأخذ قسط من الراحة مع لبس "الفوطة"، وهي قطعة قماش رطبة على شكل منشفة تغطي النصف السفلي من الجسم، ثم الاتجاه نحو "بيت الغسيل" المختصة بالغسل مرة ثانية بأدوات مرتبطة بجميع الحمامات مثل "الطاسة" وهي إناء صغير من أجل صب الماء على الرأس، و"الكاسة" وهي عبارة عن قطعة قماش خشنة لتنظيف الجسم، ثم الغسول. كما توجد غرفة خاصة بالعروس وأهلها فقط حتى لا تختلط بالآخرين وتكون على راحتها.

روايات وأساطير

حمام "ملوان" تخرج من منبعه مياه ساخنة قبل أن تجري عبر الوادي، ويعد مقصداً لآلاف العائلات، ويرتبط برواية قديمة يتداولها كثير من سكان منطقة العاصمة وضواحيها، وتتحدث عن ابنة آخر دايات الجزائر الداي حسين التي أصابها طفح جلدي جعلها تلازم الفراش وتنعزل عن الناس بعدما عجز الأطباء عن معالجتها، فنصحها أحد أقرباء الداي بالتوجه إلى مكان في سفح جبال "الأطلس البليدي" الذي يبعد 70 كيلومتراً من جنوب الجزائر العاصمة، ويقصده الناس للتبرك والتداوي من الأمراض شتى، فوافق والدها حسين كآخر حل لعلاج ابنته التي شفيت حين قصدت المنبع واستعادت وجهها الحسن.

حمام_المسخوطين.jpg

الحمام البالي أو حمام المرابطين يقع في مدينة الأسوار المعلقة ندرومة القديمة، بعيداً من العاصمة غرباً بنحو 650 كيلومتراً، ويمتد عمره لأكثر من 10 قرون خلت، إذ يرجع تاريخ بنائه على أقل تقدير إلى ما بين 1095 و1147 ميلادية. ولا يزال إلى يومنا هذا يعمل بالطريقة التقليدية نفسها، إذ يتم تسخين نحو 3000 لتر من الماء في قدر كبير فوق نار الحطب لساعات طوال منذ بزوغ كل فجر يوم جديد، ويتم تكرار العملية مرتين في اليوم ما عدا فصل الصيف الحار، وهو معروف بمعالجة أمراض المفاصل والظهر.

أما حمام "الشيغر"، فموجود في محافظة تلمسان أقصى غرب الجزائر، وهو معروف بمياهه التي يساعد شربها على تفتيت الحصى والترسبات التي تتجمع في الكلى.

ويصنف حمام "ريغة" في منطقة بومدفع بمحافظة عين الدفلى التي تبعد 90 كيلومتراً من الجزائر العاصمة، على أنه منطقة حموية من الطراز الأول، وتستقطب هواة السياحة البيئية والثقافية بفضل مميزات وجودها على ارتفاع 600 متر عن سطح البحر، وله تاريخ يمتد لقرون، إذ اكتشفت أحواضه المعدنية عام 44 قبل الميلاد، ومياهه مالحة وغنية بمادة كبريت الكالسيوم، وفيه أيضاً مكان يضم مياهاً معدنية باردة وغازية غنية بالحديد، لذا فهو ذو فاعلية في علاج أمراض الروماتيزم وآثار الرضوض وأمراض فقر الدم والعجز الكلوي واليرقان واضطراب وظائف الجهاز الهضمي وأمراض أخرى.