يحتل طبق الحلويات في المطبخ الشعبي والتجاري غذائياً وجمالياً منزلة العروس بين الأطباق الأخرى، إذ يتميز بالبهرجة والألوان ودمج النكهات الفريدة المتناقضة. لذلك هو في الحقيقة طبق لذيذ لكنه يخفي خلف منظره الأنيق كثيراً من التناقضات، وذلك لأنه يحمل في طريقة صنعه وإنتاجه خطوات معقدة أحياناً، وتحتوي الأطباق الشهيرة منه مكونات متنوعة تجمع بين المالح والمر والحلو والحامض في إطار مذاقي سلس وفريد، فهو إلى جانب ذلك من وجهة نظر اجتماعية وسياسية، طبق أخفى عبر مراحله التاريخية كثيراً من أسرار الشعوب وتتابع الممالك والزعماء شرقاً وغرباً. وبطبيعة الحال كان الطباخون أو النساء في كل عهدة أو ولاية يضيفون لمستهم الخاصة من ألوان ومنكهات في طبق مليء بالسكريات لتقديم ما طاب من إضافات تميز مذاق الطبق ورائحته وشكله.
وبدأ طبق الحلويات رحلته التاريخية إلى العالم المعاصر من الغرب، وتحديداً من العاصمة الفرنسية باريس، إذ ذاع صيت الحلويات نخبوياً في أوروبا في العصور الوسطى، لكن شيوعها الكبير شعبياً بدأ بعد اندلاع الثورة الصناعية في الولايات المتحدة الأميركية، إذ انتشرت مئات المصانع التي سهلت إنتاج مادة السكر، التي تدخل في جميع مكونات الحلويات السائلة منها أي المشروبات، والصلبة التي تعرف بالمأكولات الحلوة أو أطباق الحلويات.
الحلوى طبق لذيذ أخفى أسرار الشعوب والممالك والزعماء (pxhere)
عربياً
لا يوجد اختلاف حول عراقة الحلويات الشرقية عموماً والعربية خصوصاً، عربياً حمل طبق الحلويات طابعه الشعبي الفريد منذ القدم، لكنه انتشر أكثر في فترة الخلافات الإسلامية الأولى في دمشق والعراق، وبعدها سار نحو البيوت. ولطالما ارتبط طبق الحلو العربي الذي يعد منزلياً بأفكار ومقولات شعبية، فهو يحضر منزلياً وفق قاعدة "جود من الموجود"، التي تعني إنتاج مختلف أنواع الطعام والشراب من حواضر البيت، شريط احتواء المنتج كمية من السكر، إذ يعد كوب من الشاي المحلى مشروباً حلواً لدى أوساط الناس من الفقراء والمهمشين. ولذلك اشتهرت المنطقة العربية بالحلويات البسيطة التي يدخل في صناعتها التمر والدقيق بشكل دائم. كما صنع العرب خارج الجزيرة العربية وتحديداً في منطقة الشام والمغرب العربي معظم حلوياتهم على مبدأ "الضد بالضد يحلو"، فأغلب أنواع الحلويات العربية تجمع بين المكسرات والموالح عموماً، وبين المذاق الحلو والحامض معاً في كثير من الأحيان.
حلويات شهر رمضان الكريم تصل إلى عشرات الأصناف وتتنوع بين المشروبات والمأكولات ومنها قمر الدين والقطائف والكنافة النابلسية (ويكيبيديا)
حلويات شهيرة
ومن أشهر الحلويات الشعبية العربية حلويات شهر رمضان الكريم، التي تصل إلى عشرات الأصناف وتتنوع بين مشروبات ومأكولات، ومنها قمر الدين والقطائف ولقمة القاضي والكنافة النابلسية، أما الحلويات المتداولة يومياً التي اشتهرت ببيعها في الشوارع ومحال البقالة والباعة المتجولين، فهي البقلاوة وغزل البنات والبسبوسة. وتعد الكنافة النابلسية من أشهر الأطباق الشعبية التي تحضر من مكونات رئيسة هي الجبن المالح بعد تخفيف كمية الملح فيه والشعيرية، وكميات كبيرة من السكريات تضاف إلى الطبق مباشرة أو تصب فوقه عبر (الشيرا) أو ما يسمى القطر، وهو سائل لزج من مغلي الماء والسكر والليمون.
حلويات وزعامات
ودخلت الحلويات في السياسة من أوسع أبوابها، وتحولت أحياناً إلى مناسبة للمناكفة بين بعض زعماء العالم القديم، ومن أشهر الزعماء الذين ارتبطت أسماؤهم بالحلويات المهلب بن أبي صفرة، ومعاوية بن أبي سفيان، والأمبراطور الفرنسي الشهير نابليون بونابرت. وتزعم بعض المواقع الإخبارية على شبكة الإنترنت أن الخليفة المسلم معاوية بن أبي سفيان الذي اشتهر بحبه للطعام ومختلف أنواع الحلويات وذاع صيته بأنه "رجل أكول"، كان لا يشعر بالشبع إلا بعد تناول كمية كبيرة من الحلويات. بدورها تناقلت بعض الأعمال الدرامية والسينمائية العربية، الرواية غير المؤكدة حول سبب تسمية المهلبية، وهي طبق حلويات شامي شهير، بهذا الإسم نسبة إلى المهلب بن أبي صفرة، إذ تقول روايات أخرى إن الطبق سمي بالمهلبية نسبة إلى بعض مكوناته وليس نسبة إلى اسم زعيم معين. أما اسم الأمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت فارتبط بالحلويات من خلال الشوكولا، إذ أصدر الزعيم التاريخي لفرنسا الحديثة عام 1860 مرسوماً خاصاً رفع من خلاله الضرائب عن الشوكولا بهدف جعلها بمتناول عامة الناس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحاجة إلى الطاقة
من المؤكد أن حاجة الإنسان إلى الطاقة عموماً والطاقة الإيجابية خصوصاً هي أساس أسطورة الحلويات، فهي تقدم في الأفراح والمناسبات التي تتطلب حركة جسدية من رقص وتهاني وحركات نشيطة، لإذكاء روح الحماسة لدى الحضور والمحتفلين. حتى أن بعض أنواع الحلويات التي ارتبطت مطولاً بفكرة البهجة والسعادة والاحتفال بالحياة، قدمت في بعض الأتراح والجنائز، ومن هذه الحلويات الكنافة النابلسية، التي تؤكد بعض مواقع التواصل الاجتماعي أن أحدهم قدّمها في مناسبة حزينة كدليل على ارتباطها بفكرة منح الطاقة الإيجابية وتحسين مزاج الإنسان.
الإفراط
مع ذلك ارتبطت الحلويات بالرغبة المفرطة في تناول مختلف أنواع الطعام، لذلك حذر الأطباء والعلماء في عصرنا الحالي وبشكل واضح من الإفراط في تناولها مهما كانت الأسباب والمبررات. وجاء ذلك على رغم أن الموسوعات العلمية الأوروبية تشير إلى أن بداية الأطباق الحلوة انطلقت من وصفات شعبية أعدت منزلياً بشكل بسيط، من خلال خلط السكر بالتوابل لغايات ترطيب الحلق وتهدئة المعدة والأمعاء، مما يعني أن هذا الطبق المبهرج الذي تطور باستمرار عبر تاريخ الإنسان شرقاً وغرباً، لم يكن في البداية إلا نوعاً من أنواع الأدوية المتداولة شعبياً، لكن الإفراط في تناوله عبر التاريخ البشري حوله إلى مسبب لكثير من الأمراض.
تؤكد الموسوعة العلمية الأوروبية أن الحلويات بدأت كدواء مهدئ للجهاز الهضمي وللمساعدة في علاج عسر الهضم (pxhere)
الحلويات والعلم
العلم الحديث حذر من الحلويات كثيراً، مع أن الحلويات بدأت بوصفها تلك الوصفات الشعبية التي يتناولها ويتداولها الناس باطمئنان كامل، كونها وصفات مجربة على مدى عشرات السنين، وكانت توصف قديماً كدواء يستخدم لترطيب الحلق وتهدئة هيجان الأمعاء. وتؤكد الموسوعة العلمية الأوروبية أن الحلويات بدأت كدواء، وكانت تصنع بكميات معتدلة للغاية نظراً إلى ارتفاع سعر السكر، ولكونها تستخدم كمهدئات للجهاز الهضمي وللمساعدة في علاج عسر الهضم، وذلك من خلال خلط السكر بمزيج من التوابل. وفي وقتنا الراهن يستمر العلم في توضيح كثير من الحقائق حول الحلويات التي من أبرزها كون هذا الطبق يحتوي على هرمون السعادة أو هرمون الدوبامين، وتأثير الحلويات في الرومانسية كون منطقة التعامل مع الحلويات في الدماغ هي ذاتها التي تتعامل مع مشاعر الحب، وتحديداً الشوكولا الذي صار يعتبر رمزاً من رموز الحب في بعض الأعياد والمناسبات.
احتكار ثم انتشار
ارتبط تاريخ الحلويات في مرحلة معينة بالثراء، وما زالت الحلويات مادة ثمينة في الوقت الراهن، لأن أسعارها بالنسبة إلى الفقراء أغلى من الطعام العادي. أما صناعتها في البيوت فهي عملية صعبة، خصوصاً في المنازل متوسطة الدخل التي تديرها سيدات عاملات في العصر الحديث، إذ تعد فكرة شراء طبق من الحلويات الشعبية من مخبز قريب أو بائع متجول، أقل كلفة من حيث الجهد والمال لاسيما أن الحلويات ترتبط شعبياً حتى يومنا هذا، بفكرة المناسبات ولا تعد لكثيرين طبقاً يومياً أو وجبة ضرورية.
دخلت الحلويات عالم الأسواق التجارية الكبيرة بعد فترة من الزمن (pxhere)
ويعد الأطفال أكثر شرائح المجتمع طلباً لهذه الأطباق المحتوية على السكر، ومع ذلك لم يحصلوا على وجبتهم المفضلة هذه بسهولة إلا بعد مرور أزمنة عدة. فالمقالات التي تناولت تاريخ انتشار الحلويات عبر الشبكة العنكبوتية أكدت أن الأطفال والعمال هم الشريحة الثانية من المجتمعات المتطورة الذين استفادوا من انتشار الأدوات والآلات وتقنيات تصنيع السكر، فأصبحوا الشريحة الأولى الأوسع من المجتمعات البشرية الحديثة التي يتاح لها تناول الحلويات بشكل يومي أو متكرر. ويعود الفضل بذلك للآلة، التي ساعدت في تحويل الحلويات من ميزة خاصة للأثرياء إلى وجبة يسهل الحصول عليها، إذ انتهى مع خمسينيات القرن الماضي عصر احتكار طبقات معينة لهذا الطبق الشهي الذي ترغه كل فئات وطبقات المجتمع وخصوصاً الأطفال والنساء.
الحلويات عند المرأة
كشريحة لها خصوصيتها الدائمة في كل المجتمعات قديماً وحديثاً، تأخرت النساء كثيراً في الحصول على نصيب الأسد من الأطباق، فالمرأة جاءت في التسلسل الزمني لتناول الحلويات في المرتبة الثالثة تاريخياً. ليس هناك تاريخ محدد لبدء تداول أطباق الحلوى بوصفها مادة مفضلة للنساء، لكن المرأة الشرقية عموماً والعربية خصوصاً، لم تحظ بنصيبها الوافر من هذه الوجبة إلا متأخراً جداً.
الحياة حلوة
هناك سبب واقعي وراء المقولة المصرية الشهيرة وهي "الحياة حلوة"، فانتشار الحلويات الشعبية في هذا الوقت وصل إلى درجة لم تحدث سابقاً في التاريخ، لدرجة أن الحلويات أصبحت رمزاً لتحلية الواقع المرير لفظياً إلى جانب دورها التغذوي. إذ دخلت أسماء الحلويات الشهيرة القاموس الشعبي لشعوب كثيرة ومنها الشعب المصري، الذي تميز باستخدام مفردات ومصطلحات شعبية مشتقة من الواقع، ومنها عبارة "الحياة حلوة"، إضافة إلى استخدام كلمات أخرى مثل العسل والقشطة في الحياة اليومية بغرض تجميل الواقع.
تجارة الحلويات
بعد فترة من الزمن، دخلت الحلويات عالم الأسواق التجارية الكبيرة من خلال محال الحلويات الشهيرة، لكن ذلك لم يمنع من استمرار ارتباط صناعة الحلويات بالمنزل، خصوصاً في زمن تعدد الخيارات الغذائية وانتشار الوصفات الشعبية للحلويات من كل أنحاء العالم عبر وسائل التواصل، وتوفر المعدات اللازمة لتلك الصناعة. وبذلك ظلت ثقافة الحلويات شعبياً مقترنة واقعياً بثقافة الموجود أو المتاح ضمن مكونات البيئة. وفي هذا الجانب يشبه تحضير طبق الحلويات في بعض البلدان العربية طريقة تحضير أصناف الطعام العادية، إذ يحتوي بعض أطباق الحلويات على مكونات الوجبات الرئيسة مثل اللحوم. بل إن بعض الأطباق المغربية مثل طاجن الحلو، مزجت اللحوم بالحلويات في إطار مذاقي يخلط الشرقي بالغربي. وينم هذا السلوك الحضاري عن تناغم دقيق في مكونات الطعام التي عبرت منذ القدم عن فكرة ابتهاج الإنسان الحديث واستمتاعه بالحياة.
أخيراً لا تقترن الحلويات الشهيرة بالسياسة فحسب، وذلك من خلال ربطها بالزعماء والسلاطين من دون بقية فئات المجتمع. فمشروب قمر الدين الشامي الرمضاني الشهير مرتبط وفق بعض الروايات برجل عادي، وتقول إحدى النظريات إن التسمية تعود لرجل شامي يدعى قمر الدين، وإنه كان وسيماً جداً لدرجة أنه يشبه القمر، ومن هنا جاء الاسم.