ملخص
كان الملوك والقادة الحربيون يرغمون الجنود على حلاقة اللحية تحديداً خوفاً من إمساك العدو بها واستغلالها أثناء القتال... فكيف تطورت مهنة الحلاقة تاريخياً؟
مهنة الحلاقة هي المهنة الشعبية الوحيدة التي يمكن من خلالها استعراض الذاكرة الإنسانية عسكرياً وسياسياً وروحياً واجتماعياً من دون حرج يذكر. فالحلاق كان يؤدي وظيفته في البداية في الهواء الطلق، ومع الوقت وازدهار مهنته نقل كرسيه وأدواته الخفيفة من الشارع وقارعة الطريق إلى الأسواق، ثم أصبح له مكان خاص داخل الأسواق، لدرجة أنه امتهن الطب والجراحة وطب الأسنان بصورة قانونية لقرون من الزمن.
وفي القرن الـ20 تحولت صالونات الحلاقة إلى منتديات عامة، وأخذت شهرتها كونها أماكن للثرثرة وإطلاق الإشاعات، ثم ظهرت مهنة تصفيف الشعر بوصفها التطور الكبير في مهنة الحلاقة، إذ تقدم الصالونات الحديثة عشرات الخدمات التجميلية داخل أماكن مخصصة تتميز بالفخامة والرقي، وضمن ديكورات خاصة تخلب الألباب.
حكاية الحلاق
تمكن الحلاق من تشكيل أسطورة خاصة به من خلال تلاعبه الدائم بمخيلة الإنسان ورغبة الناس في تجميل صورتهم لدى الآخرين. واستطاع من خلال أدواته البسيطة التي أهمها الكرسي والموسى والمقص، سبر أغوار النفس البشرية ومعرفة كثير من أسرارها على مدى التاريخ قديماً وحديثاً، إذ أدى الحلاق دور الطبيب الجراح وطبيب الأسنان البارع حتى مطلع القرن الـ18.
كما لعب من خلال توريث خلطاته ووصفاته السرية للعلاج والحلاقة، دور الكيماوي الحاذق، كما أدى من خلال دوره في تحسين صورة الإنسان وبعض مهاراته الخاصة دور المعالج الروحاني وخبير التجميل.
وتكمن ميزة الحلاق الرئيسة في أنه تأقلم دائماً مع تغيرات الزمن وحافظ في الوقت ذاته على مكانته ضمن مخيلة البشر، لتصبح مهنة الحلاقة في وقتنا هذا مهنة الخيال الواسع التي تتطور شكلاً ومضموناً باستمرار.
مفترق طرق
حتى القرن الـ18 زاول الحلاق بصورة قانونية مهنة الطبيب الجراح وطبيب الأسنان في أوروبا والعالم. وفي عام 1745 صدر في إنجلترا مرسوم فصل بين مهنتي الحلاق والطب بصورة نهائية.
وبموجب هذا المرسوم منع الطبيب الجراح من مزاولة مهنة الحلاقة كما منع الحلاق من مزاولة مهنة الطب، لكن الحلاق تأقلم مع متغيرات العصر باستمرار، وتمكن من خلال أدواته البسيطة وأهمها شفرة حلاقة الذقن والمقص من إكمال حكايته المدهشة، إذ تمكن في عصر العلم والمعرفة والتقنيات بعد العولمة، من البقاء في مركز المخيلة الإنسانية الحديثة التي تتشوق إلى دخول عوالم الجمال والسحر والأناقة، بخاصة بالنسبة إلى المرأة، التي ترغب دائماً في تحقيق السعادة والراحة النفسية الخاصة بها التي يحققها لها الحلاق أو مصفف الشعر دون غيره.
بذلك استمرت أسطورة الحلاق في التفاعل مع مجريات الحياة أوروبياً وأفريقياً وعالمياً منذ القدم وحتى دخولنا زمن الظرف والرفاهية والرعاية الفائقة بشكل وصورة الإنسان أمام الآخرين.
محطات رئيسة
هناك ثلاث محطات رئيسة مرت بها حكاية الحلاق عبر الزمن، إذ بدأت منذ عصور الخرافة (3000 ق م)، وفي الفترة التي احتل فيها الحلاق دور الطبيب، وامتدت تلك الفترة إلى ما قبل القرن الـ20 الميلادي، مع تحديد دوره ضمن مهنته الرئيسة وهي حلاقة شعر الرأس واللحية، لتصل إلينا اليوم في وقتنا الراهن عبر تسميات عصرية أهمها مصفف الشعر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن خلال مصادر عديدة وأبحاث لمتخصصين على موقع "ويباك مشين" عام 2015 وأخرى في جامعة "سانت لويس" وبعض الموسوعات العلمية، فإن انطلاقة هذه المهنة بصورتها الاحترافية كانت من أوروبا الحديثة وعبر الاتصال بالرومان زمن أثينا، فيما جاء تطويرها بصورتها الأسطورية من القارة السمراء وعبر الاتصال مع زمن الفراعنة قديماً.
وتؤكد المصادر نفسها أن أوروبا من أكثر القارات اهتماماً بتراث المهنة حربياً وعسكرياً وسياسياً، فيما اعتنت أفريقيا بالجانب الروحي لمهنة الحلاق بوصفه "الكائن الإلهي" الذي يغير شكل الإنسان إلى الأفضل من خلال تلوين شعره وتهذيب خلقته.
في أوروبا
يمكن القول إن القارة الأوروبية عولمت كثيراً من تقاليد مهنة الحلاقة ونشرتها في العالم الحديث، إذ انتقلت معظم تقاليد الحلاق إلى أميركا ودول العالم الثالث بعد القرن الـ20. ومن أهم مظاهر عولمة مهنة الحلاقة في مختلف أرجاء العالم بعد هذا التاريخ ترسيخ فكرة الفصل بين مهنة الحلاقة والطب من جهة، ثم الاعتراف بتخصص تصفيف الشعر، إضافة إلى نقل ثقافة الصالونات الاجتماعية والغربية والسياسية إلى مختلف بقاع الأرض.
ومن خلال السينما عبرت هوليوود عن مفهوم صالون الحلاقة كما ورد في فيلم (باربرشوب) للفنان الأفروأميركان "إيسكيوب". فصالون الحلاقة أميركياً ما هو إلا منتدى سياسي يناقش فيه الناس شؤون حياتهم اليومية، وهذا التقليد وصل أميركا من أوروبا ووصل إلى القارة العجوز من زمن الرومان في العهد الأثيني (800 – 500 ق م).
من جهة أخرى وصلت فكرة عطلة الحلاقين في يوم الإثنين التي هي تقليد أوروبي قديم أيضاً إلى مناطق عديدة في الشرق الأوسط وظلت متبعة حتى وقتنا الراهن.
في أفريقيا
مثلت أفريقيا دائماً رئة العالم الروحية، ومنذ الفراعنة قديماً ظهرت أهم تقاليد الحلاقة عبر التاريخ، وهي اهتمام الحلاق بأدوات مهنته الساحرة، وانكبابه على إنتاج الخلطات الكيماوية الخاصة، سواء ما يختص منها بشؤون الطب والعلاج الجسدي، أو تلك الخاصة بمهنته كحلاق ومعالج روحاني.
وتقول أبحاث على موقع أفريقيا "فاكت زون" إن الحلاق الأفريقي نظر دائماً لشعر الإنسان بوصفه طريقة للتواصل مع بقية الكائنات، لأنه الجزء الأعلى من جسم الإنسان، وله دلالات عميقة على الحالة الروحية والمكانة الاجتماعية.
أدوات الحلاق
من المؤكد أن سر مهنة الحلاقة يكمن في الأدوات التي يستخدمها الحلاق، والتي تحقق إلى جانب شخصيته الفريدة تلك اللمسة السحرية التي تغير شعور الإنسان تجاه نفسه وتجاه غيره من الكائنات.
ومن أهم أدوات الحلاق الشفرة أو الموسى الحاد، إلى جانب المقص، فيما ظهرت حديثاً أدوات وآلات عديدة، حملت المهنة إلى آفاق أكثر رحابة. وتتميز صالونات الحلاقة في وقتنا هذا كونها أماكن فخمة وذات ديكورات جميلة وفارهة، فيما كانت أماكن الحلاقة قديماً متواضعة للغاية، وبعضها لم يتعد كونه كرسياً بدائياً يجلس به الحلاق على قارعة الطريق، إذ كان الحلاق قديماً يمارس مهنته في الهواء الطلق، بينما تتميز الصالونات الحديثة في كونها أماكن خاصة يمكن للرجل أو المرأة فيها أن يقرأ الصحيفة أو يتمتع بمشاهدة التلفاز أثناء قيام الحلاق بعمله.
الرجل والمرأة
بالنسبة إلى الرجل تمثل عوالم الحلاقة الجانب العملي من المهنة. مع ذلك يمكن للرجل المعاصر أن يتمتع بحلاقة مميزة أو ينال نصيبه من تصفيف الشعر وبعض مواد وعمليات التجميل، لكن هذا الجانب الجمالي من الحلاقة ما زال حكراً على النساء، فالمرأة المعاصرة تمضي في صالونات الحلاقة ساعات طويلة أكثر من الرجال.
لذلك أضافت الصالونات الحديثة مجموعة واسعة من الخدمات، مثل المساج وجلسات العناية بأظافر اليد والقدم، إضافة إلى صبغ وتلوين الشعر. وفي مثل هذه الأماكن الباهظة لا يحب العاملون مناداتهم بأسماء الحلاق القديمة، ويفضلون ألقاباً عصرية ومنها مصفف الشعر.
مصفف الشعر
مع دخولنا في عصر الحداثة اقتصرت مهنة الحلاقة لدى كثر على وظيفة تصفيف الشعر. ويمكن ربط هذه الوظيفة التي تحولت إلى اختصاص مستقل مع أبعادها وجذورها التاريخية. فتصفيف الشعر زمن الفراعنة كان خاصاً بالأثرياء أكثر من بقية طبقات المجتمع، وتقول مصادر تاريخية إن الأثرياء في تلك الفترة الزمنية كان لهم حلاق خاص ضمن بيوتهم.
وفي ذلك الزمن عرف الإنسان أول مرة فكرة الاستعانة بموديلات خارجية لتصفيف الشعر، إذ كان الحلاق يستعين بشعر الحيوان أو شعر بشر آخرين ليطبق تصفيفة شعر الزبون عليها قبل البدء بالعمل على رأس العميل الثري، وذلك تجنباً للوقوع في خطأ لا يمكن له تداركه. وبذلك مثلت صالونات تصفيف الشعر حديثاً مجرد تطبيق عصري على فكرة فصل مهنة الحلاقة كلياً عن هذا الاختصاص الحديث.
الرأس واللحية
عسكرياً وسياسياً عرفت حلاقة الذقن منذ العهد البرونزي، وكان الملوك والقادة الحربيون حينها يرغمون الجنود على حلاقة اللحية تحديداً خوفاً من إمساك العدو بها واستغلالها ضدهم أثناء القتال.
وفي التراث الحربي العربي خاض بعض القبائل حروبه من خلال الفكرة ذاتها، وكان أشهر من طبق الفكرة الحارث بن عباد في حربه ضد قبيلة الزير سالم ضمن "حرب البسوس"، إذ أمر الحارث كل المقاتلين معه بحلاقة رؤوسهم استعداداً للقتال حتى ساعات متأخرة من الليل.
من جهة ثانية حرمت بعض الديانات حلق اللحية ومنها الإسلام، وسبب ذلك حرجاً لبعض الحلاقين الذين أعلن بعضهم رفضهم تقديم خدمة حلاقة الذقن التزاماً بالسنة النبوية الشريفة.
لغة الأرقام
تقول إحصاءات أوروبية صدرت في 2018 إن عدد الحلاقين في 2008 بلغ 630 ألفاً و700 حلاق، وزاد بعد 10 سنوات ليصل إلى 757700 حلاق.
وبحسب الأرقام نفسها، فإن 44 في المئة من هؤلاء الحلاقين يعملون في محالهم بمعدل 40 ساعة أسبوعياً، علاوة على أن 14 في المئة منهم يعملون ضمن جدول بمواعيد مسبقة، و29 في المئة من حلاقي أوروبا يعملون بدوام جزئي.