الحق ليس واحداً

منذ 1 سنة 202

نشرت هذا الأسبوع تدوينة قديمة حول التسامح الديني. فأثارت نقاشاً غير متوقع. وجدت الأسئلة الرئيسية تكراراً لما عرفناه قبل عقد من الزمان، مع أنها تطرح الآن بلغة لينة. وهذا يكشف عن حقيقتين متزاحمتين نوعاً ما: فمن ناحية نستطيع القول إن مجتمعاتنا تتحرك بصورة ملموسة، نحو تقبل الاختلاف وتداعياته. لكنها - من ناحية ثانية - غير قادرة على حسم بعض الإشكالات الرئيسية في هذا الموضوع نفسه، الأمر الذي يستدعي نقاشاً أكثر تركيزاً على نقاط التوقف.

أبرز أسباب الجدل في ظني مبدأ تعدد الحق. أي أن نكون على أديان مختلفة بمذاهبها أو حتى من غير المتدينين، من أجل العيش جميعاً في توافق وسلام. ولهذا سوف أخصص مقال اليوم لتوضيح الفكرة، وتمهيد أرضيتها لمن أحب مزيداً من النقاش.

نفهم تعدد الحق على وجهين:

الوجه الأول: أن الحق في طبعه الأولي، لا ينحصر في تطبيق واحد، بل يتجلَّى في صور عديدة، يمكن لكل منها أن يكون طريقاً إلى الله. فالذي آمنت به هو أحد احتمالات الحق أو تجلياته. والذي آمن به غيري هو احتمال آخر للحق أو صورة ثانية. وهناك صورة ثالثة ورابعة وخامسة... إلخ. بمعنى أن كل الناس متجهون إلى الحقيقة المطلقة، وهي الخالق سبحانه، عبر الطريق التي يراها أقرب وأوضح. وكل شخص مسؤول عن خياراته. لن يقف أحدنا نائباً عن غيره يوم الحساب، ولن يحمل أوزاره. وهذا مذهب ابن عربي، الفيلسوف والمتصوف المعروف.

الوجه الثاني: إنَّ الحق هو الصورة المثلى للحياة الفاضلة، وليس شيئاً منفصلاً عن الحياة أو مختلفاً عنها. وهو يتجلَّى في كل فعل إنساني خيّر. إنَّ اختلاف الأعمال والمشارب وسبل العيش ومصادر القوة والمعرفة، هو الحيز الحيوي لتجلي قيمة الحق، بوصفها المستوى الأرفع في كل مجال، الأرفع موضوعياً وأخلاقياً. إن الاختلاف الطبيعي بين سبل الحياة - وبالتبعية تجليات الحق في كل منها - عامل مؤثر في ارتقاء الإنسان والعمران.

في هذا المعنى، يتطابق مفهوم الحق مع سعي الإنسان لإتقان عمله. ونعتبر هذا المسعى جزءاً من التجربة الدينية الواسعة، التي نسميها عمران الأرض. الفلاح يسعى إلى الكمال من خلال توفير الغذاء للناس، والطبيب يسعى من خلال حمايتهم من الأمراض، وهكذا البناء الذي يبني البيت، والصانع الذي يوفر السيارات وأجهزة الاتصال، والفقيه الذي يعلّم الناس الشعائر، والفنان الذي يحول الفكرة إلى مشهد للتأمل من خلال لوحة أو مقطوعة موسيقى... إلخ.

جوهر الحق في الوجه الأول علاقة واعية بين الخلق والخالق. مركزها الخالق، والطريق إليه نية التقرب. أما في الوجه الثاني فالحق يتجلَّى في تفاعل البشر مع بعضهم، تفاعلاً بناء وأخلاقياً، يؤدي - موضوعياً - إلى تطور حياة الإنسان وارتقاء الجوهر الإنساني، أي العقل - العلم والأخلاق. وهذا - في اعتقادي - الغرض الجوهري للرسالات السماوية وجهود المصلحين في كل المذاهب والمشارب.

كلا المفهومين يبدو غريباً شيئاً ما، لأننا تعلمنا منذ نعومة أظفارنا أن الدين مطابق للتعريف الفقهي. وهو تعريف ينطلق - بالضرورة - من التزام إطار اجتماعي وعرفي خاص، لا يتعداه. لكنه - رغم غرابته - ليس جديداً. وقد أشار إلى جانب منه غالبية المفسرين حين وصلوا إلى الآية المباركة «ولو شاء ربك لجعل الناس أمَّة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم». وفحواها أن الاختلاف أصل في الخلق وضرورة للحياة. وهكذا أراده الله. فهل أرادنا أن نقتتل مثل حيوانات الغابة، أم نتسالم - رغم اختلافنا - كما يحكم العقل السليم؟