الحرب بلمس الأكتاف

منذ 9 أشهر 137

الضربةُ القاضية عاملٌ مشتركٌ بين مواجهات المصارعة من أيام الرومان إلى الآن. في الزمانِ القديم كانت بالموت أو الإصابة البالغة، وفي زماننا المعاصر يكفي أن يعجزَ المهزومُ عن النهوض من الأرض حتى نعدَّ إلى العشرة، ليس ضرورياً أن يطيرَ رأسه، ولا أن يأكلَه سبع أو يشقه سيف.

حتى وقت قريب، تقبل المجتمع فكرة أن يتبارز غريمان بالسيف أو المسدس حتى الموت. وعدَّ ذلك أسلوباً متحضراً في حسم الخلاف، ليس فيه غدر ولا عراك عشوائي، بل التزام بالقواعد الحاكمة.

بنفس المنطق، كان الحصار وفرض الجوع والعطش أسلوباً شائعاً ومقبولاً في النزاعات العسكرية القديمة. الآن، تفرض الدول حصاراً اقتصادياً ليس غرضه الجوع والعطش حتى الموت، وإنَّما كسر الإرادة السياسية أو تحجيم خطر دولة ما. الأغذية وحليب الأطفال... وغيرها من الأساسيات تُستَثنى.

وفي الحرب، لم يعد بمقدور جيشٍ أن يسبيَ نساء العدو، ولا أن يقتلَ كل من بلغ الحلم إن تمكن منهم، أو يقسم ممتلكات المدنيين بين جنوده.

هذا التطور في قوانين الصراع، من الرياضة وصولاً إلى النزاع العسكري، جزء من تطور شامل في الفكر البشري، له ملامح معينة.

أولها الاحتفاظ بميزة القدرة؛ إذ لن تنجح أداة سياسية تجرد القوي من ميزته. ومن الواقعي أن يكون غرض الأدوات السياسية المعاصرة تعديل مسار القدرة لا إلغاءها. على سبيل المثال، تحتفظ القوى النووية بحق «الفيتو» في مجلس الأمن، لإعطائها ميزة نسبية تقلل حاجتها إلى استخدام سلاحها النووي في حسم الصراعات.

لكن، كما قيدت القوانين المعاصرة قدرةَ الأقوى على الفتك بخصمه بأن رسمت حداً فاصلاً بين ما هو حرب وما هو جريمة حرب، طمأنته بأنها ستحجز المهزوم عن أفعال اليأس الموجعة، فصار لدينا مفهوم عصري اسمه «مقاومة»، ومعه آخر اسمه جرائم المقاومة، أو ما يُعرف بالإرهاب. لا قتل عشوائياً، ولا اختطاف رهائن، ولا اعتداء على غير العسكريين. مقولة إن «كل شيء مباح للمقاومة» لا تصدر إلا من عقل لا يفهم ما حدث في البشرية من تطور. أمثال تلك العقول تُضل وتضر، بينما تدعي الحب والمناصرة. وهي أيضاً لا تدرك المعلم الثاني من معالم التطور الفكري في النزاعات، أعني به الانتقال من القانون التمييزي إلى القانون العام.

شرائعُ القتال القديمة ميزت بين أطراف الصراع حسب الدين أو العرق. القوانين المعاصرة لا تفعل ذلك. لا تبيح للمسيحيين أو المسلمين أو البوذيين ما لا تبيحه لغيرهم. من هنا فإنَّ مقولات مثل: «كل شيء مباح للمقاومة» منبعها في الحقيقة عقل يعتقد أنَّ كل شيء مباح لأفراد بمواصفات معينة أمام أفراد بمواصفات أخرى. قانون لا يصلح إلا لحكم منحاز، ولا يمكن تعميمه؛ لأنَّه يسأل عن دين الطرف المعني أو عرقه قبل أن يحدد ما يباح له وما لا يباح. وهذا تفكير ينتمي لأحكام الولاء والبراء، وليس إلى عصرنا الحاضر. وهو يغري الطرف الأضعف بالولوج إلى مهلكة.

عصرنا الحاضر عصر قوة تدمير شامل. تستطيع قوة غير مقيدة بالقانون الأخلاقي أن تدمر شعباً بأكمله في طرفة عين. نفهم من هذا أن التشدد في معايير وحدود استخدام القوة يوجه طاقة حماية أكبر نحو الطرف الأضعف. وإن كان من طرف يتمنى إلغاء القوانين الحديثة لكان الطرف الأقوى، ولَحسَمَ هذا الصراع لصالحه سريعاً، ولاستطاع أن يفعل بكبسة زر ما نتحاكى به عن المغول إلى يومنا. مع تطور الأسلحة تطورت الرقابة الأخلاقية بالتطور الإعلامي الضخم الذي حول الحرب في أذهان من لم يجربها إلى مشاهد عين.

على الإعلام إذن أن يغذي عقلَ المواطن العادي بفهم معنى التطور في أحكام الصراعات. هذا أدعى إلى تقديرها والحفاظ عليها، لكن القطاع الأكبر من الإعلام في منطقتنا يقود بأفكاره الجماهير على ممر جبلي ضيق، حافته حاضرة تحت الأقدام. ثم يصرخ كلما اكتشف تساقط عدد منها إلى سفح الإرهاب. كمن يحدّث أبناءه عن الانتقام قبل الأكل وبعده، ثم يتفاجأ إن اقترف أحدهم جريمة قتل. الاعتدال وفهم الحياة المعاصرة وغرس فلسفتها في النشء ليست ترفاً فكرياً، هذه خطوات ضرورية إلى التكيف والملاءمة، والتكيف أول أساسيات البقاء.

التغذية العاطفية الإعلامية تزيد مساحة الإحباط حين ينتهي «الجيم» بهزيمة أسوأ من العادي، والإحباط يتحول إلى نقمة على العالم، من مواطن لم يتعلم الفارق بين أحكام دار الحرب وأحكام السياسة المعاصرة، ولم يدرك أن أحكام دار الحرب التي ترضيه ساعة، لو عممناها، ستختفي في الساعة التالية، وستؤخذ نساؤه سبايا، ويفقد ممتلكاته، ويفقد حريته. ولا أدرك أن القانون الدولي المعاصر، في الواقع، يلعب لصالحه. أيها الإعلام المحلي، رأفة بنا، فأنت تخلق أفراداً غير مؤهلين للتفكير بعقلية معاصرة. تعتقد أن ذلك قاصر على السياسة، لكن الحقيقة أنه يصير نمط تفكير، ويمتد إلى علاقة المواطن بغيره في المجتمع، وإلى علاقته بالمواريث، وعلاقته بالدولة، وعلاقته بالقانون مقابل العرف الديني. تخلق مواطناً يعيش في القرن السابع عشر بملابس القرن الحادي والعشرين وأجهزته.