الحانات الشعبية ذاكرة تونس السياسية والفكرية

منذ 1 سنة 136

منذ عقود لم تعد النقاشات السياسية والأيديولوجية في تونس حكراً على الجامعات والشوارع، إذ تختزن الحانات الشعبية جزءاً مهماً من الذاكرة الوطنية والسجالات بين الرفاق والشباب حول أفق البلد ومسارات التحرر خصوصاً في ظل الانغلاق السياسي الذي عرفته البلاد عقوداً تحت حكم الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.

مقهى لونيفار.png

مقهى "لونيفار" يحتضن سجالات ونقاشات اليساريين في تونس (مواقع التواصل الاجتماعي)

وعلى بعد أمتار من تمثال العلامة ابن خلدون الذي يصرّ الناظرون إليه من زوار العاصمة التونسية، ينتصب مقهى "الكون" أو "لونيفار" كما يسمى بالفرنسية، وهو مقهى وحانة تمثل ذاكرة للنقاشات لا السياسية والأيديولوجية وحسب، بل أيضاً الفكرية إذ مرّ من هناك أسماء ستبقى محفورة في تاريخ البلاد على غرار الفيلسوف الراحل كمال الزغباني والشاعر محمد الصغير أولاد أحمد.

فكر وثقافة

وتطبع الحانات في تونس الخلفيات الطبقية، ويقابل مقهى "لونيفار" مقهى وحانة "باريس" التي تعد تجمعاً للبورجوازيين، فيما تشكل بقية الحانات، خصوصاً في شارع باريس ذائع الصيت في تونس و"لونيفار" ملاذ الأوساط الفكرية والثقافية واليساريين، ويرى تونسيون أن هذه الحانات أيضاً ملاذاً لممارسة العديد من الأنشطة ولا سيما السياسية والفكرية. وقال الروائي محمد عيسى المؤدب إن "من المهم التأكيد أن كثيراً من المقاهي في تونس كانت مزدوجة الوظائف، فهي مقهى صباحاً وحانة مساء، هكذا جرت العادة في مقهى لونيفار ومقهى باريس وغيرهما، إضافة إلى دار الكاتب القديمة، وهذه المقاهي كانت تحتضن جلسات فكرية وأدبية ساخنة أضافت الكثير للمشهد الأدبي والثقافي التونسي".

أضاف المؤدب "في السبعينيات والثمانينات كان مقهى لونيفار يجمع كثيرين من الفنانين والمثقفين المعارضين للسلطة، منهم محمد الصغير أولاد أحمد وحسن بن عثمان وأحمد حاذق العرف، بل ظهرت نصوص وأغان وأعمال مسرحية كثيرة في هذا المقهى". ولا تخلو الجلسات في حانة "لونيفار" وأيضاً "باريس" من سجالات سياسية ولّدت على الأرجح معارضة شرسة للسلطة، لكن أيضاً إنتاجات أدبية غزيرة أضافت كثيراً للمشهد الأدبي والفكري في البلاد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتابع المؤدب أنه "كانت هناك صراعات ونقاشات ساخنة لكن كان هنا إنتاج أدبي وفكري جادّ، الأمر نفسه مع مقهى باريس مع الناقد المعروف أبي زيان السعدي الذي لم يكن معارضاً لا لبورقيبة ولا لبن علي، لكن جلساته الأدبية كانت طريفة ومنتجة لنصوص نقدية مهمة، الفضاء الثالث الذي يمثّل ذاكرة مهمة للمثقفين هو دار الكاتب القديمة التي كانت تحضن معظم المثقفين التونسيين من كتاب وشعراء وصحافيين منهم محمد الصغير أولاد أحمد الذي يرتاد الدار بشكل منتظم، أعرف أن كثيراً من قصائد أولاد أحمد كتبت هناك، وكثيراً من الأغاني الشهيرة كتبت ولحّنت هناك بالإضافة إلى كثير من الأعمال المسرحية".

ولفت الروائي إلى أن "فضاءات لونيفار وباريس ودار الكاتب وغيرها كانت فضاءات مقاومة ثقافية وسياسية ومشاكسة للسلطة، قدمت كثيراً للساحة الثقافية التونسيّة ومنها الأدبية التي ظهرت بشكل خاص في الملاحق الأدبية الساخنة في كثير من الجرائد الأسبوعية، للأسف فقدت هذه الفضاءات اليوم حميميتها وعمقها الفكري والثقافي وأضحت فضاءات ثرثرة وحقد وكراهية من قبل من يحسبون أنفسهم ضمائر المشهد الأدبي والفكري في تونس، وهم في الحقيقة سماسرة الثقافة ووجهها السطحي المظلم الذي لا ينتصر لمشاريع أدبية وثقافية.

محرك سياسي واجتماعي

وهذه الحانات تلعب أدواراً أخرى اجتماعية من خلال تشبيك علاقات بين البسطاء في تونس والنخب، فإلى جانب الشعراء والكتاب والمحامين والصحافيين الذين لا يكلّون من الجلوس في حانة "لونيفار" هناك أسماء فكرية ذاع صيتها على الصعيد العالمي على غرار ميشال فوكو وكان يجلس في هذه الحانة. واعتبر الصحافي وسام حمدي أنه "في حقيقة الأمر للحانات الشعبية في تونس العاصمة تحديداً، تاريخ حافل في ممارسة الفعل السياسي بل أيضاً في كثير من الأحيان في تغيير مواقف أو بلورة مشروع سياسي كامل تكون منطلقاته ولبناته الأولى احتساء قوارير جعة في حانة".

وأضاف حمدي أنه "في تونس تكون الحانة المكان الأرحب والأوسع حيث يلتقي العديد من الحساسيات السياسية، ويكون النقاش بين الفرقاء السياسيين، أكثر هدوءاً وأكثر عمقاً حتى من المنابر الإعلامية، لأن في مثل هذا الإطار المكاني يتم الحديث في المباح وغير المباح، وبأكثر وضوح ودقة ومن دون قفازات أو أقنعة". وقال أيضاً إن "حانات عديدة في العاصمة تعتبر تاريخية ولها خصوصية كبيرة، جمعت أكبر الأدباء والشعراء والسياسيين بشتى أيديولوجياتهم، فكانت بمثابة المكان الذي يحدد علاقة الاحترام بين الخصوم حتى وإن فرّقتهم الأحزاب والسياسة". وتابع "هنا نذكر مثلاً حانة لونيفار التاريخية، أو نادي الصحافي بشكله ومكانه السابق عندما كان محاذياً لمقرّ وزارة الداخلية، وكيف تمت مناقشة رؤى وتصورات عدة للثورة على نظام بن علي، بل إن مثل هذه الأمكنة جعلت من العظيم الصغير أولاد أحمد يقدّم لنا أجمل باقاته الشعرية المفعمة بالسياسة وبمواقفه مما يحصل في البلد". واللافت أن معظم الحانات تعرف بكونها حاضنة للنقاشات السياسية خصوصاً من قبل قوى اليسار الذي يواجه تراجعاً، مشيراً إلى مستوى شعبيته ما انعكس على أرض الواقع من خلال تبدد حلم بلوغ دفة الحكم.

وقال حمدي أيضاً إن "الأهم ربما أن هذه الأمكنة تعتبر عفوية أكثر من أي فضاءات أخرى بحيث تجمع شرائح عديدة من المجتمع، إذ يمكن مثلاً لعامل بسيط في مصنع أن ينسج علاقات وطيدة بالكاتب والسياسي والمحامي والشاعر والصحافي ليخوض معه في أكثر المواضيع السياسية إثارة للجدل، لتكون الحانة بنهاية الأمر أهم وسيط ورابط بين ما يسمى النخبة وعامة الشعب"، ولفت إلى أن "على الطرف الآخر، قد تكون أيضاً الحانات لاعباً ومحركاً وسياسياً فاعلاً بخاصة في المحطات الانتخابية، إذ تحبك كل التحركات والأنشطة في حانة حيث تباع أصوات وتشترى أخرى حول طاولة جعة وهذا ما يحصل فعلاً في كل انتخابات"، مضيفاً "في اعتقادي، يجب العمل على تأصيل فكرة دور الحانة في توجيه رأي وانطباع جزء كبير من المجتمع التونسي ما يتطلب دراسة سوسيولوجية معمقة ربما ستؤكد حقيقة ثابتة أن المواطن العادي بات يصدّق من يحدثه في حانة، على أن يصدّق إمام مسجد أو واعظ، يخدم بالنهاية مشروع الجماعة لا مشروع الدين أو الله والوطن".