الحارة الدمشقية "عالم مسحور" يقاوم الزحف العمراني

منذ 1 سنة 148

لبعض المفردات وقع يدغدغ المشاعر وتتحرك له القلوب، إذ تحمل معنى الحياة، كمفردة "الحارة"، ولبعض الحارات عند ذكرها أثر عميق في الذاكرة، كحارات الشام أو دمشق، حيث يعيش الإنسان فيها عالماً مسحوراً بالمتعة واللقاء وتبادل الأحاديث، وحيث تأخذك الأرصفة إلى حياة فريدة، فمن يصل إلى هناك سيصعب عليه الخروج، فما سر هذه الحارات وتأثيرها في طباع الناس وسلوكهم؟ وما تاريخها وأصلها؟ وهل لا تزال تحافظ على نفسها في ظل الزحف العمراني الذي اجتاح مدن العالم وأحياءها؟

نقطة المركز

تعد ساحة المرجة أو الشهداء بحسب المؤرخين الحديثين مركز مدينة دمشق، وتتوسط المجال بين دمشق القديمة القابعة خلف أسوارها وبين المدينة الحديثة التي تنامت مع بداية القرن الـ 20، وكانت الأحياء الجديدة التي تكونت خارج الأسوار منذ العهد المملوكي شكلت أماكن مستقلة، منها الصالحية في الشمال والميدان في الجنوب، وكذلك أنشئت أحياء قريبة حول جامعي تنكز ويلبغا.

فمركز دمشق القديمة ضمن الأسوار في العهد الآرامي 1000 قبل الميلاد، وبعدها في العهود الإغريقية الرومانية البيزنطية بعد 330 قبل الميلاد كان في منطقة يقوم عليها اليوم الجامع الأموي الكبير.

لم تكن حارات دمشق بمعزل عن وسطها الجغرافي، بل كانت في قلبه مستغلة إياه أفضل استغلال، وهذا ينطبق على المدينة بأكملها في معظم العصور التي مرت بها، ويقول عفيف البهنسي في كتابه "عمران الفيحاء"، "تكونت مدينة دمشق منذ أيام الآراميين الذين منحوها الطابع الأول ومن ثم الإغريق والرومان والبيزنطيين، وصولاً إلى طابعها الإسلامي كأي مدينة عربية إسلامية بصورة عفوية منسجمة مع الضرورات المناخية ومستجيبة لمتطلبات الإنسان الذي يعيش في هذه البيئة الجغرافية".

ويضيف، "استجابت المدينة وأحياؤها بصورة تلقائية من طريق سكانها لمتطلبات المناخ، فالدروب والأزقة الضيقة الملتوية التي تحدب عليها المشرفيات والبروزات لا تزال خير وسيلة لتدرأ عن العابرين المشاة حر الصيف القائظ وبرد الشتاء القارص، ولتحميهم من الرياح والعواصف والغبار، وحتى الأسواق غطيت كلها بقبوات خشبية أو معدنية فأصبحت واقية شاملة لأهل الأسواق وروادها، كما أنها أعطت السوق طابع الوحدة".

ويتابع، "إذا ألقيت نظرة على المدينة من مكان عال فسترى أسطحتها وقد امتدت على ارتفاع واحد تقريباً، فلا يرتفع البيت أكثر من طابقين، وهكذا فإن تيارات الهواء لا تؤثر في حرارة الجو في الدروب والحارات، مما يجعل الفارق الحراري فيها ضعيفاً ويحميها من تقلبات الطقس الخارجي".

الانعكاس الروحي للعمران

واهتم كثير من الكتاب والفلاسفة بدرس العلاقة بين البيئة وصفات البشر الجسمانية والعقلية، ولعل أبرزهم المسعودي في كتابه "مروج الذهب" وابن خلدون في مقدمته، إذ يعتبر أفضل من تناول علاقة السكان بالبيئة في منهج واضح ومحدد ومفصل، وربط بين حوادث التاريخ وحقائق الجغرافيا محدداً العوامل التي تؤدي إلى قيام الحضارة وازدهارها وتلك التي تؤدي إلى تدهورها، وعليه فقد قسم المناطق الجغرافية إلى سبعة أقاليم تمتد من الجنوب الحار إلى الشمال البارد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والإقليم الرابع الذي يضم مدن بلاد الشام قال عنه ابن خلدون إنه "أعدل العمران، ولهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه، بل والحيوانات وجميع ما يتكون في هذا الإقليم مخصوصة الاعتدال، وسكانها من البشر أعدل أجساما وألواناً وأخلاقاً وأدياناً، حتى النبوات فإنما توجد في الأكثر فيها".

ويصف المؤرخ الفرنسي جان سوفاجيه مدينة دمشق في العهد الآرامي، وفيه تبدو المدينة في صورتها الأولى المنسجمة تماماً مع الشروط الجغرافية، وهي بذلك تشكل الأصول الأولى لعمران المدينة ولعمارتها، ثم فرض على دمشق المخطط الشطرنج في العهد الروماني بالقسم الشرقي من المدينة وأصبح غريباً عن طابع المدينة الآرامي.

ولحين مجيء الإسلام الذي جعل المؤمنين أمة واحدة، والأمة بهذا المفهوم هي المجموعة البشرية التي تنظمها قواعد الإسلام وشريعته وهي مجموعة موحدة متضامنة، ويقول عفيف البهنسي "انعكست الوحدانية على الفكر الإسلامي فوجدت في مفهومه وحدة الوجود التي أخذت شكلها الاجتماعي في تضامن الأمة، وهذا كله بدا في تكوين المدينة الإسلامية التي أخذت طابع التلاحم".

وتبدو دمشق القديمة في أجلى مظاهر هذا الطابع، إذ تتعاطف البيوت وتتداخل حدودها وتتعاطف الأحياء ولا تفصلها عن بعضها إلا طرقات ودروب ضيقة تمتد ملتوية كأخدود طبيعي بين كتل البيوت المتراصة، كما تبدو الطرقات أشبه بدهاليز لا بد منها لتربط هذه البيوت مع بعضها، وهذا ما انعكس على إنسانها وحياته الاجتماعية التي جعلته أكثر ترابطاً وفعلت لديه صفة الإيثار لخدمة المجتمع الذي ينتمي إليه والعمل لفلاحه وصلاحه.

الأحياء تحفظ المجتمع

إن كون المسجد الأموي هو مركز المدينة وما حوله من أحياء جعل الاستقرار والاكتفاء من أهم صفاتها، فقدرة الإنسان على التبادل بشكل سهل ومنظم تلعب دوراً رئيساً في استقراره بمكان ما أو قصده دائماً، وهذا يلاحظ بشكل واضح في دمشق وأحيائها التي أمنت له اكتفاء ذاتياً بوساطة الأسواق والدروب والأزقة، فالأسواق فيها ضيقة شبه مستقيمة تقوم على طرفيها الدكاكين المختلفة مثل سوق العطارين والبزورية والخياطين والحرير والصاغة وسوق القناديل، كما تتكون أسواق حول القلعة كسوق الخيل وسوق السروجية وسوق التبن وسوق السلاح وسوق الحدادين.

أما اليوم فنجد أن دمشق بدأت تتأثر بالزحف العمراني الذي اجتاح العالم، بخاصة في الاتجاه العمودي الذي يؤثر في الإنسان عبر فصله عن محيطه وزيادة عزلته واتجاهه نحو الفردية التي تؤثر في حياة المجتمعات وتضعف ترابطها فتخسر ويخسر معها الإنسان مفهوم الانتماء الذي لا يستطيع العيش من دونه، وهذا بدأ يظهر منذ سنوات ما قبل الحرب، كما أن إعادة الإعمار من المتوقع أن تتبع هذا الطريقة المعمارية.

لكن حارات دمشق القديمة لا تزال تحافظ على طابعها وتأثيرها في نفوس أبنائها وقاصديها، على رغم تحويل معظم دورها إلى مطاعم وفنادق وزيادة التلوث في تلك المنطقة بسببها، لكن هذه التجمعات السكانية الصغيرة بحسب المهندسة ليال عبدالحليم في دراسة لها عن تأثير التصميم العمراني والمعماري للبيئة السكنية في السلوك الإنساني، تعمل كقنوات اتصال يتم من خلالها إجراء المعلومات والآراء، وهذه العملية تجعل حياة المجتمع أكثر تماسكاً.