ما تشهده السعودية من نقلاتٍ تنموية وتحولات اقتصادية واجتماعية كبرى هي حديث المنطقة والعالم، وكانَ لهذه النقلات والتحولات أثرها في الداخل والخارج على السواء، تأكيداً لمركزية الدور السعودي في قيادة المنطقة وصناعة تحولاتها على كل المستويات. هذه المركزية التي أسهم في تكوينها منذ البداية الاستقرار السياسي والثقل الاقتصادي، والدور التجديدي للمملكة، كنظام سياسي مدني يتشرف بخدمة الحرمين الشريفين منبع الإسلام وقبلة للمسلمين. وتأكيداً لهذا الدور العربي والإسلامي، أسهمت المملكة منذ تأسيسها منظومتها التعليمية وفي خطواتها المستمرة لتطويرها في خدمة العلوم والدراسات الإسلامية والعربية، بتأسيس الجامعات والكليات المتخصصة التي شملت في خدماتها –إضافةً إلى المجتمع المحلي- المسلمين حول العالم.
كان للظروف السياسية المختلفة التي عاصرت تأسيس هذه الجامعات والمؤسسات التعليمية أثرها المرحلي على طبيعة أهدافها وخططها، كما أنَّها تأثرت –كغيرها من المؤسسات التعليمية- بمحاولات تيارات الصحوة في اختراق مناهج التعليم واختطاف برامجه، لذا فإنَّه من الضروري في هذه المرحلة، التقويم الشامل لهذه المؤسسات، رسالتها ومناهجها، والتأكد من أن تواكب بخططها الاستراتيجية وبرامجها العلمية التطورات التشريعية والتنظيمية التي تشهدها السعودية كحاضنة وداعمة لهذه المؤسسات، في جميع المجالات والتي من الممكن مناقشة بعضها في السطور التالية.
التركيز على الوظيفة العلمية للمؤسسات بدلاً من الرسالة «التبشيرية» في ظروف سياسية معينة داخلية وخارجية، وتحت تأثير تيارات الصحوة، نحتْ بعضُ هذه المؤسسات نحواً تبشيرياً في رسالتها وعملها، بما يحمله هذا التوجه من تبسيط للقضايا، وقفز على التنوع التاريخي في التراث الإسلامي وتجاهل للاختلاف الفقهي، وتبني ثقافة الرأي الواحد (وعادة الأشد والأكثر أصولية)، وأدلجة المنتج الأخير في خطاب تبشيري مذهبي ترويجي. كما تضمن هذا التوجه تبني موقف مضادٍ ومعادٍ لكل أقسام وبرامج الدراسات الإسلامية في الجامعات العالمية (الغربية والشرقية) ووصمها جميعاً بوصمة استشراقية إمبريالية. لعلَّ لهذه المواقف -على تطرفها- تبريراتها المرحلية، ولعلَّ للموقف المتغاضي عنها أسبابه وظروفه، ولكن من الضروري البدء (من الأمس) في تصحيح هذه التوجهات وإعادة موضعة استراتيجيات هذه المؤسسات لخدمة الأغراض العلمية الأساسية بعيداً عن الأدلجة وتحيزاتها، في بيئة أكاديمية منفتحة على جميع المدارس العلمية، ومد جسور التعاون والشراكة مع المؤسسات والأقسام والبرامج المعنية بالدراسات الإسلامية والعربية حول العالم. فليس من المقبول أن تكونَ أبرز برامج وكراسيّ الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الأميريكية والعالمية قد تأسست ودُعمت بمنح وتمويل سعودي، ولكنها لا يوجد لأكثرها برامج شراكة وتوأمة أو تواصل فكري مع جامعاتنا الإسلامية.
كما أنه من الملاحَظ سيطرة التوجهات التراثية في التعامل مع العلوم الإسلامية على كثير من هذه المؤسسات، فالبحث العلمي في أغلبه هو في تحقيق كتب التراث (المخطوط والمطبوع منها كذلك)، بما يتضمَّنه ذلك من قناعة مبطنة أو معلنة بأنه «لم يترك الأول للآخر»، وتحكيم لآراء السابقين واجتهادهم وتفسيراتهم للنصوص الإسلامية، المبنيّ على ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية بوصفها المرجع الوحيد في قراءة هذه النصوص وتفسيرها، مع قطيعة تامة لكل المدارس التجديدية التي تسعى لتطبيق منهجيات البحث العلمي واللغوي الحديثة سواء بالتجاهل، أم بالاتهام بالهرطقة، أم بـ«دراسات» النقض والتشويه. بالطبع، دور رئيسي من أدوار الجامعات الإسلامية هو في دراسة التراث الحضاري الإسلامي وإحيائه، بمدخل شمولي يشمل جميع مدارس التراث الإسلامي المتنوعة، إضافةً إلى تطبيق وتجريب المناهج العلمية واللغوية الجديدة في إعادة قراءة هذا التراث وتفسيره. ولكن من الضروري ألا يتم القيام بذلك بعيداً عن الخطوات الصعبة والجريئة في تجديد الفقه الإسلامي، وتمشيط وغربلة «مدونة» السنة النبوية، والتخلص من التفسيرات التلمودية للقرآن الكريم التي أُلصقت بتفسيره وعلومه تحت دعوى التفسير بالرواية.
كان من السهل في فترة سابقة إعداد مَن سيصبح مُعلماً للدراسات الإسلامية وقاضياً في المحاكم في نفس البرامج الدراسية في كليات الشريعة، فالجميع يمر على المقررات الرئيسية نفسها في الفقه الحنبلي أو المقارن، ومقررات آيات وأحاديث الأحكام، ومداخل أصول الفقه والقواعد الفقهية. ومع التقدير لبعض الخطوات الإصلاحية في السنوات الماضية من خلال استحداث أقسام القانون «الأنظمة» في بعض هذه الكليات، وإضافة عدد من المقررات في القانون الإداري والتجاري وما شابه، إلا أن النقلة التشريعية والتنظيمية التي شهدتها المملكة مؤخراً تتطلب تغيراً شاملاً في المنهجية المتبَعة والهياكل القائمة. فمع اعتماد نظام المرافعات القضائية، ونظام الأحوال الشخصية، ونظام المعاملات المدنية، ونظام الإثبات، وما يُتوقَّع صدوره قريباً إن شاء الله من النظام الجنائي، فإنه من المحتَّم أن تتحول هذه المنتجات من الأنظمة والقوانين لتكون لُحمة البرامج الأكاديمية في إعداد موحَّد للعاملين في السلك العدلي من قضاة ومحققين ومحامين، ولإثرائها بالدراسات القانونية المقارنة مع النظم والتشريعات الأخرى (خصوصاً في الجامعات المعنية باستقطاب الطلبة الدوليين)، بما يضمن تأهيل الخريجين لاجتياز الاختبارات المهنية في مجالات المحاماة والادعاء العام. وفي المقابل، تفصَّل البرامج الأكاديمية الأخرى المعنية بإعداد المتخصصين في العلوم الإسلامية والفقهية سواء للعمل في قطاعات التعليم والشؤون الإسلامية أو الباحثين المتخصصين في العلوم الإسلامية.
إنَّ تطوير المنظومة التشريعية والتنظيمية في المملكة يعتمد في بعض جوانبه على تطوير الدراسات القانونية والتحليلية والتأصيلية حولها، وهو الدور المتوقع والمنوط بالكليات والأقسام المعنية بإعداد العاملين في القطاع العدلي بغضّ النظر عن مسمى هذه الكليات، التي من المفترض من وجهة نظر شخصية أن تسمَّى كليات الأنظمة أو القانون أو الحقوق ما دامت رسالتها قد حُدِّدت لهذا الغرض، ولم تزاحمها فيه أهداف ووظائف أخرى.
تتميز المؤسسات القائمة بكليات وأقسام معنية بالدراسات العقدية والأديان والمذاهب والفِرق، ولكن –كما سبقت الإشارة- تبنّى معظم هذه الأقسام منهجية خاصة في مناهجها وأقسامها ذات موقف سلبي من مدارس التفكير والفلسفة الإسلامية المتنوعة، ومن الفلسفة على وجه العموم. وفي ضوء ما تشهده المملكة من اهتمام وإحياء للثقافة ومناهجها ومدارسها، وما ترعاه من مؤتمرات ولقاءات في الفلسفة وعلومها، فإنه من الضروري أن تواكب الجامعات ومؤسسات التعليم العالي هذا التوجه من خلال أقسام وبرامج متخصصة في الفلسفة وعلومها ومجالاتها، وليكن نصيب الجامعات الإسلامية –على الأقل- إحياء مدارس الفلسفة الإسلامية التراثية ودراساتها وتجديدها، هذا فضلاً عن المشاركة في دراسة وتقويم المشاريع الفلسفية الحديثة، بروح منفتحة وسقف عالٍ من التسامح ورؤية شمولية لاستيعاب تنوع مدارس الفلسفة الإسلامية واختلافها.
لعل من أهم إفرازات مرحلة الصحوة وما مارسته من ضغوط على المؤسسات التعليمية في مرحلة من المراحل، هو تبني ما تسمى «أسلمة العلوم»، فأصبحت لدينا أقسام وبرامج في «التربية الإسلامية» و«الإعلام الإسلامي» و«علم النفس الإسلامي» و«الأدب الإسلامي»، وأسهم بعض الأكاديميين –للأسف الشديد- في تأصيل ومأسسة هذه التوجهات التي انتهت –من وجهة نظر شخصية- إلى برامج هجينة، لا هي التي أعدَّت علماء ومهنيين في هذه العلوم المهمة، ولا هي التي طوَّرت الدراسات التخصصية في هذا المجال. وكما هو الوضع العام في القطيعة مع المدارس العلمية والفكرية المتنوعة في جامعات العالم المختلفة، فقد توجه كثير من هذه البرامج نحو الانغلاق التام، أو موقف النقض والمعارضة لكل المنهجيات العلمية الحديثة والمتطورة في هذا العلوم الأساسية والمهمة لتطور وفهم المجتمع.
بل تجاوز الأمر حتى وصل لإنشاء كليات العلوم والهندسة وغيرها، كان الهدف من بعضها مجرد استقطاب الطلبة ومعالجة مشكلات القبول، بينما لم يمانع البعض في التصريح حينها بأنَّ الهدف هو إعداد «المهندس» المسلم و«المبرمج» المسلم وغيره، وتطوير العلوم من «منظور إسلامي»، وإحياء «الطب النبوي»، وممارسات الصيدلة «العربية الأصيلة». ومن غير استغراق في الجدل حول جدوى هذه الدراسات ومدى أصالتها وجديتها وإضافتها لتطوير هذه العلوم وإعداد الممارسين والمتخصصين فيها، إلا أنَّ استحداث هذه الكليات والبرامج جاء مشتتاً لرسالة هذه المؤسسات، وصارفاً لها عن القيام بمهامها ووظائفها الأساسية، فبدلاً من الخطوات الحضارية المنتظرة في تجديد العلوم الإسلامية والعربية، وتخليصها من ثقافة قرون التقليد والتخلف، وتوظيف المناهج العلمية الحديثة في المراجعة النقدية والتقويمية للتراث، رأينا أنَّه من الأسلم ترك هذه القضايا وأمثالها، والانصراف إلى «علوم» الآخرين الدنيوية، والتصرف فيها -وفق نظرة تراثية تقليدية- انتحالاً وتسطيحاً وأسلمة. لذا فإنه قد يكون من المفيد في ضوء برامج إعادة الهيكلة الجارية حالياً في الجامعات السعودية النظر في استمرارية هذه الكليات تحت مظلة الجامعات الإسلامية، أو دمجها مع نظيراتها في الجامعات الأخرى، أو استمرارها بصفتها العلمية الموضوعية المستقلة أسوةً في ذلك بما نرجوه لأقسام العلوم الإنسانية والاجتماعية.
ختاماً، فإن الدور المتوقع من الجامعات الإسلامية والكليات الشرعية أساسي ومحوري سواء على مستوى الخطاب الشرعي العام، أو تطوير الدراسات الإسلامية والعربية وتحديثها، وقد كان في حديث سابق للأمير محمد بن سلمان، ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء حول الفهم الواسع للإسلام وفق معطيات الكتاب والسنة «المتواترة»، أقول كان في حديثه ومبادرات حكومته التنظيمية والتشريعية إشارات واضحة في هذا الشأن لما ينبغي أن تتجه إليه الجامعات الإسلامية وتنتهجه برامجها الأكاديمية من عمليات إصلاح وتقويم سيكون لها أثرها التجديدي في العالمين العربي والإسلامي.