عندما كان واضعو البرامج بالجامعات التي درّستُ فيها يقررون مساقاً بعنوان: فلسفة التواصل الحضاري، كنت أتساءل لماذا الحضاري وليس الإنساني؟ وكانت الإجابة دائماً أنّ التواصل الحضاري يُعنى بالثقافة والسياسة والاستراتيجية، والعلاقات الدولية، بينما التواصل الإنساني هو شأن عام وأخلاقي! وما كانت الإجابة مقنعةً، وازداد عدم اقتناعي عندما قرأتُ أخيراً كتاب الأديب والمفكر الراحل غازي القصيبي بعنوان: «الوزير المرافق». وفي الكتاب استعادةٌ للذكريات والملاحظات التي كان يسجلها الوزير القصيبي لنفسه عندما كان الملك السعودي وولي العهد يصطحبانه في زياراتهما الرسمية إلى دول العالم وأقطاره، أو يُعهد إليه بمرافقة ضيوف المملكة. تعاطف القصيبي مع كبار السياسيين وسواء أكانوا ضيوفاً أم مَزورين في الأحاديث الشخصية، ومن دون دبلوماسية أو فذلكات ثقافية هو تعاطُفٌ إنساني، ومن أنديرا غاندي إلى شميت إلى هلموت كول وميركل. لقد نشأ انطباعٌ عند القصيبي أنّ الشخصيات السياسية الكبرى تشعر بعد طول احترافٍ للعمل السياسي بالوحدة أو بالتعب، وأنها تحتاج إلى حديثٍ إنساني. ويعتقد القصيبي أن العلاقات الإنسانية بين المسؤولين في الدول تسهم في تحسين العلاقات، حتى ولو لم تُحلْ كل المشكلات التي يُرادُ معالجتها. ولا أدري لماذا اعتقدت أنّ العلاقات الإنسانية بين ميركل وبوتين ربما خفّفت من المشكلات الكثيرة أو أجّلت انفجارها. لكنْ ما لبثت أن تذكرت أنّ بوتين تحرش بجورجيا عام 2008 واحتلّ القرم عام 2014 والواقعتان حدثتا عندما كانت ميركل هي المستشارة أو المسؤول السياسي الأعلى بألمانيا الاتحادية. قال لي أحد مستشاري ميركل إنّ ميركل كانت تعرف الألمانية طبعاً والروسية لأنها نشأت بألمانيا الشرقية، كما أنّ بوتين كان يتقن الروسية طبعاً، ويعرف الألمانية لأنه كان ضابط مخابرات روسي بألمانيا الشرقية لأكثر من عقد. ورغم التثاقف «الحضاري» بين هذين السياسيين الكبيرين، فإنّ نزاعين وقعا بين بوتين وأوروبا قبل النزاع الثالث المهول مع أوكرانيا!
حسنٌ وباعث على التأمل هذا الواقع فيما وراء الإنساني والحضاري، وبخاصةٍ أنّ كثيرين في أوروبا وأميركا كانوا يراهنون على علاقة ميركل ببوتين، وهي ليست علاقة إنسانية وحضارية فقط؛ بل هي علاقة مصلحية عبر خطوط الغاز والبترول، التي أوقفتها الحرب الأوكرانية، فوقع الضرر على سائر الأطراف وبخاصةٍ روسيا.
ولنعد إلى «فلسفة التواصل» ليخطر بالبال على الفور كتاب الفيلسوف الألماني الأشهر عمانوئيل كانط: «السلام الدائم» أو الأبدي. وعماد قيامه وتحققه التماثل بين دولٍ دستوريةٍ قد تنتهي حتى بإلغاء الجيوش، وهو في نظر كانط ذروة التواصل الحضاري الدبلوماسي والاستراتيجي. وتحالُفُ السلام هذا في نظر كانط يمكن أن يقنع آخرين في القرب أو البعد باعتناق المبدأ نفسه، وبخاصةٍ إذا اقتنع الأقرباء والبعداء أنّ أحداً لن يحاول تغيير الحدود أو نظام الحكم. وحتى اليوم لا نعرف من أين أتى هذا التفاؤل إلى فيلسوف الضرورات العقلية؛ وبخاصةٍ أنه وبعد أربع أو خمس سنواتٍ من ظهور كتابه اكتسح نابليون ألمانيا واصلاً إلى برلين، وفي جيشه كثيرون من المرتزقة الألمان!
فهل يعني هذا أنّ فُرَص التواصل الإنساني والآخر الحضاري محدودة في صنع السلام أو استدامته؟ نحن من جانبنا عندما ندرِّس التواصل الحضاري لا نركّز على العلاقات الدولية، بل على الأعمال الأدبية والفكرية التي جرى تناقُلُها بين الثقافات أو المؤلفات وكتب الرحلة التي درس من خلالها مفكرون متميزون الحضارات الأخرى. بيد أنّ زميلاً لنا مُصِرٌّ على أنّ أهمّ مجالات دراسة التواصل وميزاته إنما يكون بمتابعة تطورات العلاقات الدولية. وفي اعتباره أنّ أطروحة جوزيف ناي في «القوة الناعمة» تُعدُّ حديثاً في التواصل الحضاري. فالولايات المتحدة تتفوق وتساعد في التعليم والصحة والتقدم العلمي والإمدادات التنموية واستقبال المهاجرين، وهذه هي أسباب جاذبيتها في العالم، وأشكال للتواصل الحضاري. بينما تستعمل الولايات المتحدة القوى الخشِنة (العسكرية) في عدة أماكن فتخسر، وتفقد الكثير من جاذبيتها. ولا يعترض الزميل على مساعدة الولايات المتحدة الكبيرة لأوكرانيا باعتبار أنّ «التوازن» ضروري، أو تضعف أوروبا كثيراً وتتبع الروس، وتستولي الصين على تايوان. وهذا يعني أنّ القوة الناعمة لا تفيد دائماً كما لم تفد علاقات ميركل ببوتين في منع الحرب. فما هو الميزان إذن في فكر وممارسة التواصل الحضاري؟ في كل الأحوال يبدو أن التواصل لا ينفع إذا اعتقد طرفٌ أنّ مصالحه مهدَّدة رغم الكلام الحسن. وهذا هو الأمر في تردّي العلاقات بين أرمينيا وأذربيجان بسبب «قره باغ» (ينطقها الأرمن: كاراباخ). ومع ذلك هناك من يُراهن على «الحكمة» الموروثة والفهم العميق لدروس التاريخ وتجارب النجاح. فقد ذهب هنري كيسنجر ابن المائة عام إلى الصين لإقناع القادة هناك أن يعتمدوا حكمة كونفوشيوس وسعة أفقه ورهانه على الزمان، وألا يعتمدوا على حكمة بني قومه الأميركان، فهي مفقودة منذ زمنٍ طويل! ليس من الضروري أن تأخذوا تايوان اليوم بحربٍ ودماء، وتستطيعون أخذها غداً مثلما أخذتم ماكاو وهونغ كونغ من دون ضربة كف!
في كورس التواصل بالجامعة ننظر في مسألتين: الأولى لماذا البحث الآن في إطارٍ فكري وفلسفي للتواصل؟ بسبب عقودٍ من فلسفات القطيعة التي قادها الفرنسيون، وصارت ديدن الشبان وثقافتهم بحجة الحرية والتغيير والخروج على القواعد التي يعتبرونها قيوداً. وتنتشر منذ ثلاثة عقودٍ تداولياتٌ للتلاقي والعيش معاً، من دون أن تنتهي الانجرافات باتجاه التصدع الحضاري والإنساني. والمسألة الثانية تجارب التواصل الحضاري الثقافي والفكري، التي ذكرناها سابقاً. نموذج كتاب «كليلة ودمنة»، الذي تُرجم إلى الفارسية باسم «الحكايات الخمس» في القرن الخامس الميلادي ترجمه ابن المقفع إلى العربية، ومن العربية تُرجم إلى خمسين لغة عبر القرون. هو بالنسبة للهنود قصص حكمة على ألسنة الحيوانات. ولدى الفرس تأملٌ في ضرورة الحفاظ على نظام الطبقات وهلاك من يخرج عليه. أما عند العرب فله معنيان: الحكمة للمتأدبين، وعلائق المثقف بالسلطان. وقد اعتاد الدارسون في العقود الأخيرة - يتقدمهم المستشرقون الإسبان - على استعراض التجربة الأندلسية التي تلاقت فيها شعوبٌ وأديانٌ وثقافاتٌ بتواصُل مثمرٍ صنع حضارةً زاهرةً أثَّرت في أوروبا وفي المشرق الإسلامي.
التواصل الإنساني والحضاري أملٌ كبيرٌ للبشرية، لكنه حتى اليوم رغم قوة الدعوات وتواترها، ما استطاع إيصال العالم إلى سلامٍ مستدام.