"أيها الأحبة إلى هنا نأتي إلى نهاية إرسالنا لهذه الليلة، يطيب لي ولأسرة البرنامج العام أن نقول لكم ليلة سعيدة وأحلاماً وردية، تصبحون على خير، التلفزيون العربي السوري يحييكم من دمشق".
هذه الكلمات الأخيرة التي كانت تنطق بها إحدى مذيعات التلفزيون السوري معلنة انتهاء البث في حدود الساعة 12 والنصف منتصف الليل بتوقيت دمشق، وذلك بعد أن تعرف المشاهدين إلى برنامج اليوم التالي.
البداية
عرف السوريون التلفاز في منتصف القرن الماضي تزامناً مع انطلاق إرسال التلفزيون العربي السوري السبت 23 يوليو (تموز) 1960، من قمة جبل قاسيون في دمشق، وذلك في زمن الجمهورية العربية المتحدة التي وحدت سوريا ومصر في جمهورية واحدة، وذلك بناءً على القرار الجمهوري رقم 717 في الخامس من مايو (أيار) 1959، القاضي بإحداث المديرية العامة لهيئة الإذاعة والتلفزيون، وهو اليوم نفسه الذي انطلق فيه إرسال التلفزيون المصري في ذكرى قيام الثورة المصرية ضد الملكية.
وفي كلمة بثت على الهواء للمدير الأول للتلفزيون وهو صباح قباني الشقيق الأصغر للشاعر الراحل نزار قباني، قال مخاطباً المشاهدين، "عددنا أن الشاشة التي ستدخل إلى بيوت الناس هي نافذة انفتحت أمامهم على العالم، عالم الثقافة والحضارة والمعرفة، لذلك كان اهتمامنا الأول بذلك القطاع الأكبر من المواطنين والمواطنات، ممن لم تتح لهم ظروفهم الاجتماعية أن يتزودوا بمختلف أنواع العلم والمعرفة، وهي ما يتعين أن يتزود بها الإنسان في هذا العصر".
ما يجب أن تعرفه عن التلفاز
ولكن قبل شهرين من بدء البث التلفزيوني، وتحديداً في الأول من يونيو (حزيران) 1960، نشرت مجلة "هنا دمشق" مقالة بعنوان ما يجب أن تعرفه عن جهاز التلفزيون قبل انتشاره، إذ نصحت المقالة المواطنين بشراء جهاز كبير لأنه الأنسب، بشرط أن تتوفر لديهم المسافة اللازمة لرؤيته بشكل جيد، وقالت "إن الحجم الكبير يجب أن يكون بعيداً من عينيك مسافة تتراوح بين 3.5 وأربعة أمتار، ويجب أن يعمل جهازك على توتر 110 فولط، أما إذا كان توتره 220، فيجب الاستعانة بمحول ترانس". كما حذرت المقالة من أخطار هذا الجهاز، "يمنع منعاً باتاً أن تمد يدك إلى الجهاز والتيار متصل به لأي سبب كان، لأن التيار يتراوح بين 9 و18 ألف فولط، وهذا التيار يستطيع أن يصرع فيلاً في ثانية واحدة أو أقل، كما يمنع منعاً باتاً قاطعاً أن تنقر على شاشة الجهاز حتى ولو استبد بك الطرب، لأن الشاشة سريعة العطب وإذا تعرضت لنقر من هذا النوع فإنها تنفجر".
أبيض وأسود
ومع بدء بث التلفزيون، لم تكن هناك أجهزة متوفرة للمشاهدة إلا ما وزعته الدولة في بعض الساحات العامة في دمشق، كما امتلكه بعض أصحاب المحلات التجارية الكهربائية، إضافة إلى امتلاكه من قبل عدد يسير من مواطني دمشق.
وعن شرائهم لأول جهاز تلفزيون تقول شهيرة، "كنا نذهب كل عام إلى معرض دمشق الدولي، وفي بداية السبعينيات كنا نتجول في المعرض، وإذ بوالدتي تشير إلى صندوق مصمت وتقول هذا الذي يظهر عليه الناس وما يقولون عنه تلفزيون، فما كان من أبي إلا أن اشتراه لنا وكان بالأبيض والأسود آنذاك".
وتتابع "كان أول جهاز يدخل إلى حارتنا في ذلك الوقت، لذا كان يجتمع الجيران والأطفال في منزلنا ويجلسون وراء بعضهم للمشاهدة وكأنهم في حلقة للكُتّاب قديماً".
ولقد كانت مدة البث خلال اليوم لا تتجاوز الساعتين آنذاك، وبدأت تتزايد تدريجاً مع توسيع نطاق البث وتشييد محطاته في معظم المحافظات السورية، إذ كانت التمثيليات كالتي قدمها دريد لحام ونهاد قلعي، تحتل الحيز الأكبر مع بعض الفقرات الأخرى.
ولكن كان ليوم الجمعة دائماً خصوصية معينة، إذ إن البث كان يمتد من الصباح حتى المساء بفقرات متعددة، وأهمها كان كما قالت شهيرة نادي الأطفال، "حيث كنا ننهي واجباتنا المدرسية ونجتمع لمشاهدته مع أطفال الحارة وكانت تقدمه المذيعة الراحلة هيام الطباع".
رؤية بالألوان
وهذا ما توافق عليه ناديا التي كانت تشاهد هذا البرنامج عند جيرانهم الذين يمتلكون جهازاً بالأبيض والأسود كذلك في إحدى قرى حمص، إلى أن اشترى والدها تلفزيوناً ملوناً، فكان بذلك السباق في قريته لاقتنائه، فتحول منزلهم إلى مكان لتجمع الجيران أثناء وقت البث، وهذا ما كان يحدث في منزل عزام (67 سنة) في مدينة اللاذقية عندما اشتروا الجهاز الملون، "كان أطفال الحارة وبعض الكبار يقفون على شبابيك منزلنا كي يشاهدوا هذا الاختراع العجيب وما يظهر فيه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ففي عام 1978، بدأت تجربة التلفزيون الملون وظهرت عندها بعض البرامج والمسلسلات الدرامية بالألوان، وفي عام 1980 أصبح الإرسال بالألوان بنظام بال وسيكام، ولحوالى 10 ساعات يومياً بعد أن كان لمدة أربع ساعات فقط.
ولقد كانت الشركة السورية "سيرونيكس" هي أول من قام بتصنيع أول تلفزيون ملون في البلاد عبر جمع قطعه من شركة "iTT" الألمانية، ومنذ ذلك الحين بدأت الأسر السورية باقتناء التلفاز كل حسب قدرته، وكان ثمنه يصل حد الـ200 ليرة آنذاك، إلى وقت وصل فيه التلفزيون في سوريا إلى قطعة مهمة وأساسية من أثاث المنزل.
له صدر البيت
لم يخل منزل في سوريا من وجود جهاز تلفزيون أو أكثر، فله صدر البيت والمكان الخاص الذي يجهز من دون تفكير مسبق، إن كان رب الأسرة يستطيع شراءه، لذلك فقد وجدت شركات الأدوات الكهربائية نظام التقسيط لتسمح لمعظم العائلات باقتنائه، فالسوريون كانوا مولعين بهذه القطعة الكهربائية العجيبة، وكانوا يجددونها كلما ظهر شكل وتصميم جديدين للتلفاز.
وفي منتصف 1995، بدأ انتشار الستالايت والمحطات الفضائية بعد أن كان السوريون يشاهدون المحطات السورية الأرضية بقناتيها الأولى والثانية، وتقول ناديا "كنا نشاهد القنوات اللبنانية الأرضية إضافة إلى السورية، فبسبب قربنا الجغرافي من لبنان كنا محظوظين أكثر من بقية المناطق في سوريا لمشاهدتها، ولكن عند ظهور الستالايت أصبحت الصورة والصوت أوضح".
ولكن شهيرة تحن إلى أيام التشويش وصوت ما قالت عنه "خشة" الصادر من التلفزيون في أيامه الأولى، كما عبرت عن اشتياقها للقناة الأرضية التي توقف بثها عام 2012، تمهيداً لانطلاق محطة فضائية أخرى.
التحول
ومع بداية الأزمة في سوريا كان للتلفاز القدرة الأكبر على التأثير في السوريين، بخاصة مع عدم انتشار وسائل التواصل الاجتماعي آنذاك، إلا في نطاق كافيهات الإنترنت التي احتاجت إلى وسائل غير مباشرة لفتحها، واقتصار الهواتف المحمولة على خاصية المكالمات وإرسال الرسائل النصية فقط.
ويقول رامي وهو من مواليد منتصف الثمانينيات، "في بداية الأحداث كنا متسمرين أمام التلفاز نتلقف المعلومات من كل حدب وصوب، لا نعرف الحق من الباطل".
ولكن مع استمرار الحرب وزيادة تأثيراتها السلبية بما فيها استهداف مراكز توليد الطاقة في سوريا، توقفت محطات الكهرباء وجعلت مشاهدة التلفزيون أمراً صعباً ومحدوداً، يقول رامي، "كنا محكومين بساعات المشاهدة، لذلك كنا نشتري بطارية خاصة للتلفاز لنتابع ما يعرض عليه، لكن الوضع اختلف منذ 2016، فقد بتنا نتخلى عن هذا الجهاز تدريجاً، واليوم نحن لا نستخدمه إلا ما ندر، فلا كهرباء توجد لتشغيله وأصبحت البطاريات أغلى بأضعاف مضاعفة".
ويتفق رامي مع ناديا وشهيرة وكذلك عزام أكبرهم سناً، أن التلفزيون أصبح تحفة في المنزل، وأن وسائل التواصل الاجتماعي حلت بقوة وبجدارة مكانه على رغم حبهم وتفضيلهم له، لكن سرعة الوصول وسهولتها والقدرة على اختيار ما يتابعونه يجعل وسائل التواصل إلى حد الآن تتفوق على الصندوق العجيب، التلفاز.