التكنولوجيا... مصدر خطر على مكانة الإنسان وقيَمه!

منذ 1 سنة 191

من تحديات الحياة التي تقلّص، وقد تلغي، هامش التعقل والعقلانية، كل أشكال التعصّب الفئوي... عرقياً كان أم دينياً أم مذهبياً أم عنصرياً.
أيضاً يهدد التعقل والعقلانية تراجع «مكانة» الإنسان أمام التطور المتسارع للتكنولوجيا التي بدأ رحلتَه معها مكتشفاً ومخترعاً، ثم صار مستهلكاً وشريكاً ومتفاعلاً... وها هو الآن على أبواب مرحلة «الذكاء الصناعي» مرشح لأن يغدو الضحية، بل الفريسة السهلة. ويبدو راهناً أنه، مع تسارع التقدم العلمي والتكنولوجي، تتراجع أولاً أهمية الإنسان، وثانياً قدراته على التحكم في خياراته ومصيره، وثالثاً مفاهيمه الأخلاقية ومنظومة قيَمه وأفكاره ونظرته إلى المجتمع.
في مجال منظومات القِيم التي ألفناها، هناك أولويات استقيناها من التعاليم الدينية، والتنشئة البيتية، والتعليم المدرسي، والخبرة في مكان العمل في ظل المؤسسات والقوانين الوضعية. ولكن، لنبتعد قليلاً عن النظريات، ونتطرق إلى أمثلة عملية.
لعقود خلت، ترسّخت قناعة عامة في العالم عن وجود نماذج حكم «ديمقراطية» ناجحة، نظّمت التنوّع والاختلاف بفضل مؤسسات قوية لا يرقى إلى «شرعيتها» الشك. وهذه النماذج مارست عبر العقود عملية التداول السلمي للسلطة على الرغم من اختلاف الأحجام والثقافات والديانات والثروات الطبيعية.
من نماذج الحكم «الديمقراطية» هذه، ثلاثة اعتُمدت في كل من الولايات المتحدة الأميركية منذ أواخر القرن الثامن عشر، وفي الهند وإسرائيل منذ أواخر أربعينات القرن العشرين.
تختلف الكيانات الثلاثة أحدها عن الآخر في كل شيء تقريباً. فالولايات المتحدة «وطن جديد» في «عالم جديد» أسسه مهاجرون أوروبيون مسيحيون بيض على أنقاض سكان أصليين يتبعون ديانات محلية لا توحيدية. ثم استقدم المهاجرون واستقطبوا أيدي عاملة من مختلف أنحاء العالم، وبالأخص من أفريقيا. وساعد كل هؤلاء في بناء أغنى اقتصاد بالعالم. وحتى الآن يشكل المسيحيون (من كل مذاهبهم) الغالبية العظمى من السكان.
الهند - التي استقلت كدولة عام 1947 - وضعها مختلف. ذلك أنها «شبه قارة» قامت فيها حضارات متواصلة بلا انقطاع، وتتعايش فيها منذ أكثر من 1500 سنة ديانات قديمة. ومنذ تقسيم شبه القارة الهندية في عام 1947 بات الهندوس يشملون غالبية سكانية كبيرة تقل بقليل عن 80 في المائة، يليهم المسلمون ثم أتباع كثير من الديانات الأخرى، ويتكلم سكانها ما لا يقل عن 780 لغة. وهي حالياً كبرى دول العالم من حيث تعداد السكان بأكثر من مليار و400 مليون نسمة.
أما إسرائيل، الأصغر سكانياً بكثير (أقل بقليل من 9 ملايين ونصف المليون) فهي حالة فريدة بكونها «دولة مستوطنين جدد» من مختلف أنحاء العالم. بيد أن هؤلاء يعدون أنفسهم امتداداً أو استئنافاً دينياً وحضارياً وثقافية لديانة شرق أوسطية ضاربة في القدم هي الديانة اليهودية، أقدم الديانات الإبراهيمية الثلاث، وأقلها أتباعاً.
الدول الثلاث المذكورة تختلف، إذن، من حيث الهوية الدينية واللغوية والحجم السكاني والكثير الكثير من المعايير والاعتبارات، لكنها، لا استثناء، أقنعت نفسها بأنها «دول ديمقراطية» تحترم نُخبها السياسية المؤسسات والدساتير وحكم القانون واستقلال القضاء.
ومن جانب آخر، تُعدّ الدول الثلاث اليوم من أهم معاقل «التكنولوجيا الجديدة» المتقدمة على مستوى العالم، وفيها أنشط المنجزات العلمية والتطبيقية في مجالات الرقمنة والروبوتات والذكاء الصناعي. غير أن المشكلة هنا أن معظم المنجزات التقنية المتصاعدة في كل أميركا والهند وإسرائيل تسير في اتجاه معاكس لهبوط الثقافة الاجتماعية والحياة السياسية ومفاهيم التعايش والتسامح... التي بدأت تناقض كل المبادئ التي دأب مؤسسو «التجارب الديمقراطية» في الدول الثلاث على التغنّي بها.
وبالفعل، يشعر اليوم كبار المثقفين والعلماء الأميركيين والهنود والإسرائيليين، بقلق حقيقي على مصير التعايش والحريات والعدالة والديمقراطية، واختصاراً، الاستقرار في الدول الثلاث في ظل الصعود المخيف لتيارات اليمين المتطرف دينياً وعنصرياً.
هجوم 6 يناير (كانون الثاني) 2021 على مبنى «الكابيتول» بواشنطن، رمز الديمقراطية الأميركية، كان مؤشراً خطيراً واحداً - من عدة مؤشرات - لما أخذ يعتمل داخل بعض الأوساط في أميركا. وبعد سنتين من هذا الحدث المفصل، لا تبدو في الأفق ملامح تغيّر يذكر في اندفاع الحزب الجمهوري أكثر فأكثر إلى اليمين. ولا يظهر أن الرئيس السابق دونالد ترمب، الذي أسهم في «تسييس» المحكمة العليا، وشجع الخطاب العنفي الفئوي ضد استقلالية القضاء، وواصل التشكيك في تداول السلطة... لطّف من خطابه التأجيجي. وهذا بينما يتخبط الحزب الديمقراطي في تناقضات فكرية ومصلحية تضعف قدرته على تقديم استراتيجية مبرمجة وإيجابية في وجه شعبوية الجمهوريين.
في الهند الوضع ليس أفضل بكثير. وكانت أحدث «مآثر» تطرّف السلطة الهندوسية القومية اليمينية المتشددة إبطال نيابة زعيم حزب المؤتمر الهندي المعارض راهول غاندي، حفيد «بطل الاستقلال» جواهر لال نهرو، وابن رئيسة الوزراء السابقة إنديرا غاندي. أما الحجة فهي تفوّه الزعيم المعارض بكلام مسيء لرئيس الوزراء ناريندرا مودي.
توجّه انتقامي كهذا لإبطال نيابة خصم سياسي منتخَب، بدلاً من مقاضاته أو تأنيبه، دليلٌ على مدى انحدار مبادئ التعدّدية ورفض تقبّل الرأي الآخر وقلة احترام المؤسسات القضائية.
... وأخيراً نصل إلى الأزمة التي تمزّق الشارع الإسرائيلي هذه الأيام. لقد بلغت ديماغوجية بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الملاحَق قضائياً بقضايا فساد، أن ينقلب على السلطة القضائية نفسها، وهذا بعدما اكتفى خلال السنوات الماضية بتوزير عتاة اليمين الاستيطاني العنصري من أجل الاحتفاظ بحصانته القضائية كرئيس حكومة.
بالمناسبة، نتنياهو ما تمتع يوماً بهالة «زعامة تاريخية» صنعها عبر المنظمات القتالية مثل مناحم بيغن ويتسحاق شامير، ولا من مسيرة ناجحة في الجيش مثل آريئيل شارون. بل كل ما في الأمر أنه داهية سياسي محنك وشقيق ضابط شاب قتل في «عملية أنتيبي» (عام 1976) فصار بطلاً قومياً. وبعد مقتل أخيه نجح «بيبي» في استغلال كل شيء وانتهاز كل فرصة، إلى أن نجح حقاً في أن يغدو السياسي الأطول حكماً في تاريخ إسرائيل منذ تولى رئاسة الحكومة لأول مرة عام 1996.
في الماضي جاءت كل نجاحات «بيبي» على حساب الفلسطينيين والعرب وفرص السلام العادل. لكنها اليوم، عبر الاستقواء بعتاة الاستيطانيين الفاشيين، يحذّر عقلاء إسرائيل ومثقفوها المصدومون بأنها باتت تهدد استقلال القضاء والمؤسسات الديمقراطية... واستطراداً، أمن المجتمع الإسرائيلي وكيان الدولة ومستقبلها.