التكنولوجيا تلف حبل المرض النفسي حول رقاب المستخدمين

منذ 11 أشهر 112

لم يعد خافياً أن التكنولوجيا أصبحت لغة العصر الحالي وجزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية للبشر، بعدما حاصرت الهواتف المحمولة بما تحمله من تطبيقات الملايين حول العالم، التي فرضت نفسها على واقع الحياة العامة.

ويقدر عدد مستخدمي الهواتف المحمولة في العالم بـ 5.44 مليار شخص، مما يعكس الانتشار الكبير والاعتماد المتزايد على التكنولوجيا، وهذا الارتباط الوثيق بين البشر والأجهزة التكنولوجية مثل الهاتف المحمول وأجهزة الكمبيوتر واللابتوب له وجه سلبي، كما له كثير من الأوجه الإيجابية.

وخلال الأعوام الأخيرة، ظهرت أنواع مستحدثة من الاضطرابات النفسية المرتبطة بصورة مباشرة بالتكنولوجيا مثل أنواع من الرهاب أو الـ"فوبيا" واضطرابات تتعلق بالتواصل الإنساني.

إدمان الـ"سوشيال ميديا"

وعن الأمراض النفسية المرتبطة بالتكنولوجيا يقول استشاري الطب النفسي نبيل القط "توجد اضطرابات صُنفت أمراضاً نفسية، من بينها إدمان الألعاب الإلكترونية على سبيل المثال، فالجمعية الأميركية للطب النفسي، وهي من أكبر الكيانات المعنية بهذا الشأن، صنفته مرضاً نفسياً منذ عام 2013، بينما هناك اضطرابات أخرى قائمة وموجودة، لكنها لم تصنف بعد مرضاً نفسياً من جهات معتمدة مثل إدمان الـ’سوشيال ميديا‘ أو إدمان الجنس الإلكتروني، على رغم أنها قائمة وموجودة، ويحتاج من يعانيها إلى العلاج النفسي".

ويضيف في حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن "هذه الأنواع من الإدمان تعتمد على المعايير نفسها التي يُقاس بها الإدمان المتعارف عليه للمواد المخدرة، فتمر بخطوات معينة تبدأ بالانشغال العقلي بهذا الأمر بصورة كبيرة، وزيادة كمية الوقت والمجهود المبذول من أجله، وتأثير السلوك سلباً في حياة الشخص، والإحساس بغضب وتوتر واضطراب عند البعد منه، وكل هذه المراحل تحدث بالفعل لمدمني الألعاب الإلكترونية وغيرها من الأمور المستحدثة المتعلقة بالتكنولوجيا بكل صورها، وفي هذا الوضع ينبغي طلب المساعدة من الطبيب النفسي الذي سيقيّم وضع الحالة، ويضع لها خطة العلاج سواء كان نفسياً أو دوائياً".

الحرمان من الهواتف

وظهر خلال الأعوام الأخيرة مصطلح "نوموفوبيا" اختصاراً لرهاب الحرمان من الهاتف المحمول، وهو مصطلح يُستخدم لوصف القلق الذي يشعر به الشخص عندما لا يتمكّن من الوصول إلى هاتفه المحمول لأي سبب.

وقامت مجموعة من الباحثين في دول عدة بدراسة حول هذا الشأن، ونشرت في مجلة BMC للطب النفسي في يوليو (تموز) الماضي بعنوان "النوموفوبيا بين طلاب الجامعات في خمس دول عربية في الشرق الأوسط: الانتشار وعوامل الخطر".

وأجريت الدراسة في الفترة بين سبتمبر (أيلول) 2021 ويناير (كانون الثاني) 2022 في جامعات بالأردن ولبنان ومصر والبحرين والسعودية، وشارك فيها 5720 طالباً جامعياً من كل البلدان المذكورة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وخلصت الدراسة إلى أن متوسط الوقت اليومي الذي يقضيه المستخدمون في استخدام الهاتف المحمول هو 94.4 دقيقة، ولوحظت أعلى درجة اعتماد على الهاتف المحمول لدى طلاب الجامعات من مصر وأدنى درجة اعتماد على الهاتف المحمول لدى طلاب الجامعات من لبنان.

وأكد معظم الطلاب أن استخدام الهاتف المحمول يساعدهم على التغلب على الحال المزاجية السيئة مثل الشعور بالنقص والعجز والقلق والاكتئاب، وأنهم يشعرون بالغضب في الصباح إذا لم يتمكنوا من تحديد موقع هاتفهم المحمول، وينزعجون إذا طلب منهم أحد التقليل من استخدام الهاتف المحمول.

وأظهرت الدراسة أن طلاب الجامعات لديهم ضعف في ضبط النفس عندما يتعلق الأمر بإدارة استخدام الهاتف المحمول وأن الإناث كانوا أكثر عرضة للاعتماد على الهواتف المحمولة بنسبة 15 في المئة مقارنةً بالذكور.

تعليقاً على هذا الأمر، يشير القط إلى أن "الهاتف المحمول تجاوز تماماً المفهوم البسيط لفكرة الهاتف، وأصبحت حياة الشخص وأموره الشخصية عليه، إذ يحوي صوراً ومواعيد وبيانات ومحادثات وحتى أشياء أخرى مرتبطة بالأمور المالية وحسابات البنوك، فمن الطبيعي أن يتسبب هذا الوضع في حال من الهلع للشخص إذا فقده أو ظنّ أنه فقده، وسيزداد هذا الوضع في الفترة المقبلة مع زيادة الاعتماد على الهواتف في كل مناحي الحياة".

ويضيف أنه "تجنباً لمثل هذه النوعية من الاضطرابات النفسية يجب أن تهتم الأسر بخلق حال من التواصل بين أفرادها والاهتمام بالحديث والمشاركة والتفاعل المباشر لأن الواقع الذي نعيشه حالياً هو أن بعض الأسر تجلس في المكان نفسه، وكل منهم يُمسك بهاتفه المحمول ويعيش كل منهم عزلة تامة عن الآخرين، وهذه الظاهرة أصبحت منتشرة بصورة كبيرة، وفي الوقت ذاته الاهتمام بالتجمعات العائلية الكبيرة، فهي لها أهمية كبرى في تدعيم فكرة التواصل، بخاصة بالنسبة إلى الأطفال والشباب".

انعدام التواصل الإنساني

ظاهرة منتشرة بصورة كبيرة، بخاصة بين الأجيال الجديدة، تتمثل في وجود حال من كراهية الحديث في الهواتف، والاعتماد بصورة كاملة على التواصل عبر الرسائل النصية وربما الصوتية، وربما يصل الأمر عند بعضهم إلى حال من "الفوبيا" الشديدة بمجرد سماع جرس الهاتف بشكل يتجاوز فكرة عدم الرغبة في الحديث في الهواتف إلى الخوف أو الأزمة النفسية من القيام بذلك.

تقول ريم حسين (27 سنة)، تعمل في مجال الصيدلة، "دائماً هاتفي على الوضع الصامت، أكره المكالمات الهاتفية، ولا أجد لها مبرراً، فمن يريدني يمكنه التواصل معي عن طريق الرسائل النصية أو حتى الصوتية، أما الأحاديث المطولة في الهواتف فمزعجة جداً، وليس لها داعٍ، وأرى فيها شيئاً من اقتحام الخصوصية، ولذلك انزعج جداً وأشعر بتوتر وقلق إذا تركت الهاتف مفتوحاً وسمعت صوت الجرس، وغالباً لا أرد، وأعتبر ذلك حرية شخصية في المقام الأول".

بينما يشير حازم (20 سنة)، طالب في كلية الهندسة، إلى أنه يعتمد "بصورة أساسية على التواصل عن طريق الرسائل النصية، فهي كافية، وتؤدي الغرض تماماً، ولا أحبذ الأحاديث المباشرة إلا في أضيق الحدود، ويؤدي هذا الوضع إلى مشكلات لا حصر لها مع عائلتي الذين يتصلون بي بشكل دائم من دون رد لأن الهاتف صامت، ولا أرى أزمة في هذا الأمر وأراها تفضيلات شخصية في المقام الأول. كثيرون حالياً يفضلون هذا الوضع، ويرونه أكثر راحة من الدخول في أحاديث لا طائل من ورائها باعتبار أن الرسائل النصية تكون مختصرة".

ويقول الدكتور القط، "يمثل هذا النوع من الرهاب أحد أنواع الخوف من الآتي أو من المجهول، وهو بالفعل حالة تحتاج إلى علاج، وتنتشر بين الأجيال الأصغر باعتبار أنهم اعتادوا التواصل عن طريق الرسائل النصية منذ سن صغيرة، لذا أصبح الحديث في الهاتف بالنسبة إليهم أمراً مزعجاً وغير مستحب. في بعض الأحيان تكون هذه الحالة ناتجة من شعور بالإرهاق وعدم الرغبة في الكلام بصورة عامة لفترة معينة، ويعود الأمر لطبيعته، لكن في مرات أخرى تحتاج الحالة إلى علاج نفسي".

ويشير القط إلى أنه خلال الفترة الأخيرة انتشر الوعي نسبياً بهذا الأمر وبدأ الاهتمام بإجراء الأبحاث حول هذه المواضيع باعتبار أنها أصبحت واقعاً يعيشه الناس بالفعل وينعكس على المجتمع كله.ويضيف أن "هذا الأمر على المدى البعيد يمكن أن يسبب أزمة كبيرة لأنه سيترتب عليه انعدام التواصل الإنساني، وهو بالفعل أصبح أقل بكثير من فترات سابقة، لكن الأمر يزداد ويتفاقم"، محذراً من أن قلة التواصل لو استمرت بهذه الصورة، "يمكن بعد عصور طويلة أن تكون لها تأثيرات كبيرة حتى في اللغة ذاتها، وسيكون ذلك بمثابة تطور جديد للبشر الذين يميزهم أنهم كائنات اجتماعية".