التطرف طيف يتجاوز التعريف

منذ 2 أشهر 45

في ظل التحديات القائمة في الشرق الأوسط وفي العالم عموماً، ومع المتطلبات المعنية بارتقاء مستوى الأمن والتطور والاستقرار والازدهار، نجد أنه من المناسب أن نقف اليوم أمام مُعطى يأخذ بالتصاعد، يرتبط بمفهوم التطرف، فبرغم الجهود المبذولة في هذا الصدد، فإن تعريف التطرف هو الأكثر تداولاً على مستوى هذا الملف، وحتى نتناول هذا المُعطى فأمامنا مسألة تتعلق بمفارقة شهيرة وقديمة، مفادها أننا لا نتعلم إلا ما نعرفه مُسبقاً على نحو ما، بوصف أن الجهل بموضوع معيّن يُغلق أمامنا فرصةَ طرح سؤال حياله، ولعل وضع أي تعريف ثابت وصارم إزاء موضوعات تتميّز بطبيعتها المنفلتة والهُلامية والديناميكية في آنٍ معاً هو وقوع في هذه المفارقة؛ حيث يتحوّل التعريف إلى سياجٍ مُغلق، يجعلنا لا نجد في النتائج إلا ما ضمَّنّاهُ مسبقاً في المقدمات، ولهذا فإن التعريف بقدر ما يعطينا إحساساً بالوضوح الآمن والمريح، فإنه يحجبنا عن إدراك الحقيقة البالغة التعقيد لبعض الظواهر.

إن المدخل السابق كان مهماً لنقول: إنّ دلالات الموضوعات لا تُدرَك من خلال اختزالها التعريفي، بل ينبغي تتبّعها في تشابكاتها المُعقدة، التي هي نتاج تراكمات مستمرة، وقواعد لا تتوقف عن التحوّل والتبدّل، ولعل المتتبّع والمراقب لظاهرة التطرف الخطرة يجد نفسه مضطراً في كل لحظة لأن يتخلّى عن التعريفات السائدة، لكي يستبدل بها النظر إلى التطرف من حيث إنه حالة تتطلّب التحليل التراكمي، وليس بوصفه مجرد معلومة أو حدث أو صفة بسيطة تكون موضوع توصيف، فالتطرف ليس حالةً تُشخَّص، إنما هو ما نصفهُ اليوم بـ«طيف» بالغ التعقيد تتداخل فيه عوامل كثيرة، وتتقاطع معه مجالات متباينة ومتعددة، تتراوح ما بين القانوني والثقافي والاجتماعي والأمني والسياسي، ويمكن للقائمة أن تطول أكثر، ولهذا سيكون من التبسيطية المُخِلّة أن نختزل كل هذا التعقيد في تعريفٍ ما، ويبدو أن المبالغة في اختزال التطرف في النشاط الإرهابي، هو في الغالب ما يوقعنا في إغراءات التعريفات التبسيطية السهلة، وذلك لاعتقادنا أن كل تطرف ينبغي أن يتجسّد في شخصيةٍ إرهابية، وبالتالي يسهل علينا ضبط دلالات وتعريفات الأبعاد الجنائية في ظاهرة الإرهاب، فهي في وضوح وجه قاتل، وما سبق الفعل هو نفسه ما يبرّر اختزال الأبعاد الآيديولوجية للعمل الإرهابي لما تدعوه أدبيات هذا المجال بالتطرف العنيف، الذي يتجلّى في الدعوة الصريحة إلى العنف والإشادة به والتجنيد له، إلا أنّ ما يهمنا هي المرحلة الأولى والمؤسسة لهذه العائلة الآيديولوجية الصراعية، التي ترتبط بنواة تلك القناعات المتطرفة في العقل، والتي تعيش وتتفشّى من دون الانخراط في مسارات التطرف تنظيمياً، ونعني به تطرف المزاج، وليس تطرف التبعية الهيكلية.

ومع هذا، سيظل السؤال قائماً، حينما ننتبّه إلى أن كل تعريف للتطرف إنما يرتبط بالتطرف العنيف، أي بأحد أدواته ومظاهِره، وهذا ما يتطلّب في الأصل تعريف هذا الأخير أيضاً؛ من جهة لأنه ليس كل عنف تطرّفاً بالضرورة، فتنفيذ القانون الجنائي مثلاً، وتنزيل العقوبات، هو مظهر نظامي لسلطة الدولة، وهو عنف صارم، ومع ذلك فهو إحدى الوسائل الأكثر فاعلية في التصدي للإرهاب، والتي برغم عنفها لا تحمل أي شبهة تطرّف، ومن جهةٍ أخرى فالعنف لا يكون دائماً مادياً كحال عنف الإرهاب؛ فهناك عنف ناعم يتعلق بخلفيات ثقافية واجتماعية راسخة، تجعل الضحية نفسه لا ينظر إليه بوصفه عنفاً، بل بوصفه مكوّناً ثقافياً لهويته.

إذاً، ماذا سنفعل؟ علينا أن نتحرّر من ضغوطات المقتضيات الإجرائية التبسيطية للتعريفات المُغلقة، إذا ما نظرنا إلى جملة التعقيد في ملف التطرف والإرهاب، والتحديات الجسيمة التي ما كادت تكشف أبعاد الصراعات التوسعية والآيديولوجية وأثرها على انتشار هذه الآفة، حتى أُضيفت إليها تحديات جديدة ومتسارعة ذات مخاطر عالية، كاستغلال المتطرفين للتطوّر التقني والذكاء الاصطناعي والذكاء الاصطناعي التوليدي، وتوظيف ذلك في الدعاية المُضلّلة والتزييف، وخلق واقع مزيف، وهي تحديات متغيّرة ومتسارعة لا يمكن حصر أبعادها ومخاطرها بتعريفٍ مُغلق للتطرّف.

ومن هذا المنطلق، فعوضاً أن نضع تعريفاً ثابتاً جامداً يمكننا أن نراهن على وضع تعريفات استقصائية، لا تحصر نفسها في زاوية واحدة، بل تعمل على إعادة تحديث صيغها تبعاً لإيقاع التحولات التي يعرفها التطرف، من جهة المضامين، ومن جهة الأدوات، وخصوصاً نحن نعرف كيف استطاعت الجماعات المتطرفة الشهيرة التي وقعت في شناعات الإرهاب، أن تبدّل جلدها المفاهيمي لمرّات عديدة، فيما لا يتجاوز عقداً من الزمن، فرأينا كيف تحولت من الطابع التنظيمي السري إلى الحراك الشعبي، والقفز على شعارات العدالة الاجتماعية، إلى النشاط السياسي القائم على الاختراق للمؤسسات، إلى استخدام العباءة الوطنية، بل والقَبَلية في حالات معينة، دون الحاجة للتنازل عن التطلعات المتشددة التي تَدِين فكرة الوطن من الأساس.

لهذا، من المناسب أن نكيّف أنفسنا مع طبيعة التطرف الطيفية، ونربط فهمنا بثوابت غير قابلة للنقاش، بعيداً عن مسألة العنف الصريح أو الخفي، فنربط ظاهرة التطرف بالمجال الحضاري الكوني، فالعالم اليوم حقّق مكاسب حضارية كبرى بعد حروب وأزمات، فكان أن أصبح السلام قوامَ الحضارة المعاصرة، ولهذا فإن الحروب لا تمثّل جوهر حضارة العالم الحديث، بل هي حوادث ينبغي أن تجد معالجتها في الحلول السياسية، هذا حتى لو انزلقت الأحداث سياسياً نحو المزيد من المواجهات، إلا أنه على المستوى القيمي لا يمكن لأي طرف أن يجعل الحرب واستدامتها مطلباً رسمياً، ولهذا، فإن كل ما يُمثّل خطراً على السلام والاستقرار والازدهار مهما كانت صورته ومشربه ولغته، سيوضع حسب هذا التعريف في دائرة التطرف، فتكون مكافحة هذا الأخير قائمة على مرجعية حضارية كونية، والتي لا تتعارض مع القيم الإنسانية الثابتة والغايات الراسخة.

إن هذا الأفق الحضاري في فهم مخاطر التطرف يجعلنا نتحرّر أيضاً من مسألة تضارب الخصوصية مع العالمية؛ إذْ لا شيء على هذا المستوى الشامل يمكن أن يفصل بينهما، فكل خصوصية في عالمنا المعاصر لها تأثير وتفاعل مع ما هو عالمي، والعكس صحيح أيضاً، لهذا فحرصنا على مواجهة التطرف من حيث هو خطر على الحضارة يقتضي من كل ثقافة محلية أن تتقصّى في مرجعياتها وواقعها كلَّ ما من شأنه أن يترجم هذا الخطر بعبارات ومقولات محلية، وتكون لنا الشجاعة لإعادة تحديث هذه المكونات عبر كل الثقافات، وتهذيبها بما يتناسب مع المُثل الحضارية للعالم، وفي هذا الصدد، وبالإضافة إلى الدلالة القانونية لعبارة المكافحة، التي قد تأخذ طابعاً قضائياً في الحالات التي تدخل تحت طائلة القانون، يمكن أن تأخذ هذه الكلمة دلالة علاجية واستباقية، إن مكافحة الأمراض والأوبئة، التي لا يقل التطرف خطراً عنها، لا تتحقّق من خلال الاشتباك مع المرض فحسب، بل على الأحرى يصبح الكفاح في هذا الصدد هو اليقظة المسبقة لتلك الآفة الكامنة لهذه المخاطر، ومحاولة عزلها ومنعها من الانتشار والانتعاش، وعلى هذا المنوال تأخذ مكافحة التطرف طابعاً إصلاحياً، ينظم الحوار ولا يلغيه، لكنه في الوقت ذاته يتصدى للآليات التضليلية التي تتحوّل إلى حرب صامتة ضد ثوابت الإنسانية، وضد استقرار الدول والمجتمعات.

لذا، يجوز القول في ظننا، إن مَن لا يحصر نفسه في تعريف مُغلق للتطرف، هو الأقدر على التعرّف إلى حقيقته ومواجهته، بعيداً عن العملية التبسيطية والاختزالية، التي في الغالب ما تغيب عنها الطبيعة العميقة لظاهرة التطرف التي هي أكثر تعقيداً مما نعتقده للوهلة الأولى.