لم يكد «يجف حبر» قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بالموافقة على الطلب الفلسطيني بدعوة محكمة العدل الدولية للنظر في مسألة الاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ فلسطينية، اعتبرت بتوقيتها أنها رسالة قوية وُجهت إلى حكومة نتنياهو الجديدة وإذا بالوزير الإسرائيلي للأمن القومي إيتمار بن غفير يقوم بانتهاك حرمة المسجد الأقصى. وكأنه بذلك يتحدى القرار الأخير للأمم المتحدة، ويعتزم تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى.
تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة مساء الجمعة 30 ديسمبر (كانون الأول) العام الماضي قراراً يقضي بطلب من محكمة العدل الدولية أن تصدر فتوى بشأن الآثار المترتبة على انتهاكات إسرائيل المستمرة لحق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير. وجاء طلب الاستجابة لمشروع قرار قدمه المندوب الفلسطيني للجمعية العامة، ما أبعاد هذا القرار؟ ولماذا قدم الطلب إلى محكمة العدل الدولية؟ وبأي صفة تقدم بالطلب مندوب فلسطين؟ هل فلسطين عضو كامل العضوية في الأمم المتحدة؟ وإن لا فما وضعها القانوني في الأمم المتحدة؟ وما أسباب توقيت اتخاذ ذلك القرار وملابساته وردود الفعل من إسرائيل والأطراف الأخرى سواء تلك التي أيدت القرار أم اعترضت عليه؟ فقد أيد القرار 87 دولة من أصل 193 دولة عضواً في الجمعية العامة، وجاء اعتراض 26 دولة وامتناع 53 دولة عن التصويت. وقد أوضحت نشرة «أخبار الأمم المتحدة» حول ماهية الفتوى التي ينبغي أن تصدرها محكمة العدل الدولية بالتذكير بمشروع القرار الأول المعنون «الممارسات الإسرائيلية التي تمس حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية»، وقد قررت الجمعية العامة في الفقرة 18، ووفقاً للمادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة، أن تطلب من محكمة العدل الدولية، عملاً بالمادة 65 من النظام الأساسي للمحكمة، أن تصدر فتوى بشأن المسألتين التاليتين، مع مراعاة قواعد ومبادئ القانون الدولي، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة… وفتوى المحكمة المؤرخة 9 يوليو (تموز) 2004 والمقصود بها هنا فتوى محكمة العدل الدولية بشأن الآثار القانونية الناشئة عن تشييد جدار في الأرض الفلسطينية المحتلة والتي قررت فيها أن الجدار الإسرائيلي العازل غير قانوني، ورفضت إسرائيل هذا الحكم، واتهمت المحكمة بأن لها دوافع سياسية.
وعبّر القرار الجديد الذي اعتمد يوم الجمعة الماضي عن قلق الجمعية العامة الشديد إزاء «إمعان إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، في انتهاك حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني بشكل منهجي بما في ذلك الانتهاكات الناجمة عن الاستخدام المفرط للقوة والعمليات العسكرية …. وأكدت الجمعية العام ضرورة منع جميع أعمال العنف والمضايقة والاستفزاز والتحريض التي يرتكبها المستوطنون الإسرائيليون المتطرفون وجماعات المستوطنين المسلحين خصوصاً ضد المدنيين الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال «وهناك فقرة وكأنها كُتبت استباقياً بِحَثِّ الطرفين على «التزام الهدوء وضبط النفس والامتناع عن القيام بأعمال استفزازية وعن التحريض ونبذ لغة الخطاب الملتهبة للمشاعر وخصوصاً في المناطق ذات الحساسية الدينية والثقافية، بما في ذلك القدس الشرقية…» وكأن هذه الفقرات الأخيرة فصلت واستبقت خصيصاً تشكيل حكومة نتنياهو الجديدة المتطرفة.
وقد صوتت الدول العربية لصالح القرار بالإجماع، ورحّب به المندوب الفلسطيني في الأمم المتحدة رياض منصور، واعتبر أن التصويت قد بعث برسالة إلى حكومة نتنياهو الجديدة في شأن نيتها تعزيز السياسات الاستيطانية والعنصرية. وعارضت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وكندا وإيطاليا وأستراليا والنمسا والمجر والتشيك وغواتيمالا وإستونيا القرار بينما امتنعت فرنسا عن التصويت.
وفي بيان صدر في الليلة التالية من مساء السبت قال نتنياهو إن «الشعب اليهودي ليس محتلاً على أرضه ولا محتلاً في عاصمتنا الأبدية القدس، ولا يوجد قرار للأمم المتحدة يمكن أن يشوه تلك الحقيقة».
وكان جلعاد أردان سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة قد قال في بيان قبل التصويت: «لا يمكن لأي هيئة دولية أن تقرر أن الشعب اليهودي شعب محتل في وطنه. وأي قرار من هيئة قضائية تتلقى تفويضها من الأمم المتحدة المفلسة أخلاقياً والمسيسة هو قرار غير شرعي تماماً».
ولا شك أن نتنياهو ومندوب إسرائيل في الأمم المتحدة يعلمان أن الجمعية العامة للأمم المتحدة التي يصفانها الآن بالمفلسة أخلاقياً هي التي أقرت في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1947 مشروعاً يدعو إلى إقامة دولة يهودية.
وبحسب صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية فإن عدم دعم الدول الغربية الكبرى للتصويت لصالح القرار يساعد إسرائيل لاحقاً على حشد بعض تلك الدول إلى تقديم آراء إلى المحكمة ضد «تقنين الصراع»؛ لأن المحكمة من المتوقع حاجتها بين عام إلى عامين قبل إصدار فتواها التي لن تكون ملزمة قانوناً كما سنشير لاحقاً إلى ذلك. ولهذا السبب تسعى إسرائيل إلى قيام الدول الغربية المعارضة إلى إرسال رسالة إلى قضاة محكمة العدل الدولية مفادها أن العالم المتقدم ضد تلك الخطوة الفلسطينية لأنها لن تسهم في عملية السلام وقد تؤدي فقط إلى التصعيد.
وهنا يمكن إثارة سؤالين حول موقف بعض الدول الكبرى وإسرائيل. تعمدنا تفصيل ما جاء في نشرة «أخبار الأمم المتحدة» لحيثيات القرار الأممي وكله يستند إلى ميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي... إلخ، وفي الأساس قد أسهمت تلك الدول الكبرى في صياغته فلماذا إذن حين يطلب الأمر تطبيقه على إسرائيل تتنصل عنه في حين تستند إليه لتبرير مطالبتها باحترامها في الأزمة الأوكرانية وغيرها من الأزمات؟ وبخصوص إسرائيل لماذا تسعى إلى وقوف الدول بجانبها وهي تدعي أن القرار غير ملزم مثل قرارات مجلس الأمن وهو هنا ليس إلا مجرد رأي استشاري وسبق أن تجاهلت القرار الاستشاري لعام 2014. تعلم إسرائيل في مجلس الأمن هناك من سيدافع عن مواقفها باستخدام حق النقض. وترى خطورة الاتجاه في تطور مفاهيم القانون الدولي وكمثال مطالبة مايكل لينك المقرر الخاص للأمم المتحدة بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية باعتبار إنشاء المستوطنات الإسرائيلية جريمة حرب بموجب نظام المحكمة الجنائية الدولية. والأهم من كل ذلك أن فلسطين منذ 30 سبتمبر (أيلول) 2015 أصبح علمها يرفرف في الأمم المتحدة بجانب أعلام الدول الأعضاء 193، صحيح أنها لم تقبل عضويتها بعد ولكن فلسطين بقرار من الجمعية العامة في نوفمبر 2012 انتقلت إلى صفة الدولة «المراقبة»Etat observateur.
وتجدر الإشارة أنها عضو كامل العضوية في منظمة اليونيسكو التابعة للأمم المتحدة وكذلك في محكمة الجنايات الدولية ناهيك بالطبع عن عضويتها في المنظمات الإقليمية كجامعة الدول العربية ومنظماتها والمنظمات الإسلامية... إلخ.
وهذا التطور الحثيث يسبب حالة قلق لدى إسرائيل بأنها إن قبلت عضويتها كاملة في الأمم المتحدة فبإمكانها لاحقاً أن ترشح ضمن الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن الدولي.
في الخلاصة يشهد العالم اليوم تغيرات شاملة سواء في موازين القوى الدولية وفي مفاهيم القانون الدولي الذي يتأقلم مع متطلبات التغييرات الدولية، وقد نشهد ربما بنوع بالتفاؤل اقتراب نهاية فكرة أن إسرائيل مدعومة بالدول الكبرى فوق القوانين الدولية، وستكون هناك بداية مرحلة جديدة ومعاملتها مثل بقية الدول دون استثناء.