نوع جديد من الصراع الثقافي يواجهه عالمنا العربي منذ بدء ما يعرف بعصر السماوات المفتوحة وعصر الإنترنت والأقمار الصناعية، وظهور ما يعرف بالعالم الرقمي، حيث كل شيء متاح من خلال شاشة صغيرة أو كبيرة لهاتف ذكي أو كومبيوتر محمول أو غيرهما من الأجهزة التي أصبحت جزءاً من مفردات الحياة اليومية. والآن يتم الحديث عن عالم موازٍ يسمي الميتافيرس لم تتحدد قوانينه بعد، لكن قريباً جداً سيصبح هذا العالم أيضاً من مفردات الحياة، ولا نعلم إلى أي حد ستصل إليه البشرية في المستقبل القريب، ولا كيف ستستطيع الدول الحفاظ على هويتها الثقافية والوطنية في عالم تسود فيه ثقافة الأقوى والأكثر انتشاراً في الفضاء الرقمي. والخطر كل الخطر هو أن نترك مجتمعاتنا نهباً لثقافات غريبة عنا تنسينا هويتنا الأصيلة التي تشكلت عبر آلاف السنين على الأرض التي نحيا عليها. وقد يتساءل واحد ممن يعتبرون أنفسهم من المحدثين وما الضرر بالأخذ بثقافات جديدة تنقلنا إلى مصاف الدول المتقدمة علمياً وتكنولوجياً؟ وفي الحقيقة أن الضرر هو عدم إدراك أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية لا ينقصها استيراد ثقافات أجنبية بحثاً عن التقدم والإبداع ففي ثقافتنا وهويتنا الأصيلة كل أسس النجاح والتحضر، ولتفسير ذلك يجب أن نوضح مدى معاناة المجتمعات الغربية من مشكلات نفسية وصراعات سيكولوجية خطيرة نتيجة مفاهيم خاطئة عن الحريات الشخصية والفردية وأمور كثيرة لا تزال مجتمعاتنا الشرقية مؤمنة ضدها، نتيجة تماسك الأسرة والمجتمع ونتيجة سيادة القيم الروحية والإنسانية وكل فضائل الهوية الأصيلة لمجتمعاتنا.
هذه فقط مقدمة لموضوع يحتاج إلى دراسات مستفيضة لكي نخلص منها بالأسباب والنتائج التي تدفعنا إلى الحفاظ على هويتنا الثقافية والوطنية وغرسها في نفوس الأجيال الصغيرة لكي نحصنهم ضد أمراض ضياع الهوية ونضمن لمجتمعاتنا الأمن والاستقرار الاجتماعي والنفسي والثقافي. وفي هذا المضمار تنبهت المملكة العربية السعودية إلى أمرين مهمين أولهما أن مسألة عزل المجتمعات عن الثقافات الأجنبية أمر مستحيل ودائماً ما يأتي بنتائج سلبية. والأمر الثاني هو أن المجتمعات التي تهتم بتعزيز هويتها الثقافية والوطنية هي التي تؤمن أبناءها مخاطر الغزو الثقافي. ومن هنا انطلقت المملكة العربية السعودية ومنذ سنوات بقيادتها ومؤسساتها في الاهتمام بتراثها الأثري والثقافي سواء المادي أو اللامادي، وربط أفراد المجتمع بهذا التراث لتعزيز الهوية الوطنية.
لقد تحدثنا من قبل عن الدور المهم لوزارة الثقافة وهيئة التراث بالمملكة في تعزيز الهوية الوطنية، ونشر الوعي الأثري بين أفراد المجتمع السعودي بكل الطرق والوسائل. ولا يتخيل أحد أن نشر الوعي الأثري كان فقط عن طريق المواد التعليمية بالمدارس والجامعات، أو عن طريق تحفيز المدارس والجامعات على زيارة المناطق الأثرية ومتاحف الآثار والفنون فقط؟ أو حتى عن طريق المبادرات والمسابقات التي تبنتها وزارة الثقافة وهيئة التراث والتي جاءت بنتائج مهمة في تعزيز الهوية الوطنية الأصيلة للمجتمع السعودي.
إن المملكة العربية السعودية كانت أكثر انفتاحاً في مشروعات الكشف عن تراثها الأثري وتسجيله والحفاظ عليه بكل الوسائل الممكنة، التي كان منها تشجيع البعثات العلمية المشتركة بين الهيئات العلمية الأجنبية وبين هيئة التراث والجامعات ومراكز البحث بالمملكة العربية السعودية. ولا يكاد يمر شهر من دون أن نسمع عن خبر كشف أثري مهم بالمملكة، أو افتتاح موقع أثري جديد للسياحة بعد تطبيق معايير إدارة المواقع الأثرية، أو تسجيل موقع أثري جديد على قائمة التراث العالمي. تلك الأخبار كان لها دور كبير في تنبيه المجتمع السعودي إلى أنه يمتلك تراثاً أثرياً عريقاً وأن هويته الوطنية تقف على أرض صلبة، نتيجة تراكم خبرات وثقافات نمت وازدهرت على مدى آلاف السنين على أرض المملكة العربية السعودية.